1 - مسكون بكافـكا
تحية للكاتب والأديب ابراهيم وطفي مترجم الآثار الكاملة لكافكا
الكاتب والمترجم العربي السوري المقيم في ألمانيا ابراهيم وطفي يقدم لنا نموذجاً فريداً في الثقافة العربية المعاصرة، فقليلون مثله في ثقافتنا هذه مَن يسكنه موضوع بعينه، فيُخلص له، ويبذل في سبيله الغالي والرخيص (من وقت، ومال، وصحة، وطاقة)، ليقدم لنا في النهاية بكل سعادة وجذل وحبور نتيجة تفانيه وإخلاصه، قانعاً منا بمجرد الشكر والإمتنان، لا غير. إنه لا يهدف إلى الشهرة أو الذهب، وغير ذلك من قشور دنيانا الفانية. فهو قد نال جائزته بالفعل بإنجاز ما كان يتمنى، لا أكثر، وهذا بالضبط هو أجره الغالي الذي لا يقدّر بثمن! نموذج ابراهيم وطفي نادر في ثقافتنا، ولكنه نمط وفير في الثقافة الغربية، من أحدث أمثلته ذلك الكاتب والأكاديمي البريطاني الذي أنفق ثلاثة عقود من عمره لتحرير وتحقيق الأعمال الكاملة للكاتب الشهير جورج أورويل، وكانت سعادته القصوى أنه تمكن من الانتهاء من عمله هذا الذي تفرغ له بكل جوارحه.
أما موضوع أديبنا العربي ابراهيم وطفي فهو نقل كافكا إلى اللغة العربية، والتعريف به التعريف الصحيح والسليم بين المثقفين والقراء العرب، الذين لا يعرفون في كثير من الأحيان شيئاً عن كافكا سوى أنه ذلك الرجل غريب الأطوار الذي ألف قصة عن رجل تحول إلى صرصور! وهذه بلا شك مجرد مصيبة من مصائبنا العديدة، أو التي بلا عدد والتي تشكل مستنقعات ثقافتنا الآسنة. مثقفونا – لنقل أغلبهم، حتى لا نتجنى على الأقلية المغبونة – لا يعرفون مثلاً أن كافكا (ولد وعاش في براغ، وكان يكتب بالألمانية) الذي ينتمي إلى أوائل هذا القرن، كان محرّماً في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، إذ أدرك حكامها مدى خطورته عليهم رغم أنه لم يفه بكلمة واحدة ضد الشيوعية. لقد حرّموه لأنه أدان التسلط والتعسف والبيروقراطية والعفونة واللؤم، وكلها كما يعرفون من علاماتهم السوداء، والتي لا تزال من علامات الكثير من النظم الاستبدادية. غير أن كافكا لم يكن مناضلاً إيديولوجياً، أو خطيباً مفوهاً. كان كافكا شاعراً مرهفاً، وإنساناً يقترب من مدارج الأنبياء، وفيلسوفاً وجودياً ثاقب البصر حاد البصيرة. وهذا هو كافكا الذي أراد لنا إبراهيم وطفي أن نعرفه.
القراء العرب قرأوا على مدى العقدين أو العقود الثلاثة الماضية بضعة أعمال لكافكا منها رواياته الثلاث المحاكمة والقلعة وأمريكا، وقصته القصيرة الطويلة، أو روايته القصيرة "المسخ" أو "الانمساخ" بتعبير إبراهييم وطفي. بالإضافة إلى عدد من قصصه القصيرة الأخرى. ولكنها كلها مترجمة عن ترجمة إنكليزية أو فرنسية فيما عدا عمل واحد وهو روايته "القصر" التي ترجمها الأكاديمي المصري د. مصطفى ماهر عن الألمانية مباشرة. ابراهيم وطفي يُقدم على ترجمة كل أعمال كافكا عن الألمانية مباشرة. وليست هذه الميزة الوحيدة التي يتميز بها هذا المشروع الطموح، ولكنه يتميز أيضاً بكونه ترجمة منهجية منظمة وعلمية للتراث الكافكاوي. هو إذن ليس مجرد ترجمة عشوائية انتقائية، ولكنه ترجمة متأنية صبورة مرتبة موضوعياً وتاريخياً. كما أن وطفي لا يتميز بمعرفته بالألمانية فحسب، لا، وإنما هو متمرس بها، عارف بدقائقها وخفاياها، فقد سبق له أن ترجم عدداً هاماً من الأعمال الأدبية والمسرحية لكتّاب ألمان آخرين، بالإضافة إلى دقته وحرصه على التوصل إلى أدق ترجمة ممكنة للنص الذي يحتشد لترجمته أكبر الاحتشاد، وليس ثمة حاجة هنا إلى التنويه بلغته العربية الصافية السليمة الدقيقة التي يستمتع بها كل من أسعده الحظ بقراءة أي عمل من ترجمته.
سبق للأديب ابراهيم وطفي أن أصدر كتابين سابقين يضمان عدداً من نصوص كافكا المترجمة إلى جانب كمية كبيرة من المعلومات عن كافكا وكل ما يتعلق بشخصه وحياته وبيئته وزمنه وغير ذلك. لكنه وخلال الأسابيع القليلة الماضية أصدر مجلداً ضخماً يضم ما يزيد على الثمانمئة صفحة (848 صفحة بالضبط) من القطع المتوسط يضم الكتابين المذكورين بالإضافة إلى كتابين آخرين، وبذلك يكون قد قطع شوطاً لا بأس به في مشروعه، ولكنه لم يبلغ ثلثه، أو ربما ربعه بعد، فلا تزال رواياته الثلاث في انتظار الصدور، بالإضافة إلى بقية قصصه القصيرة، ومذكراته أو يومياته وخطاباته، إلا أن رواية "المحاكمة" كما يبدو جاهزة للصدور، إذ أن المترجم / المؤلف أورد قائمة تفصيلية بما يحتويه الكتاب الذي يشملها مع التعليقات والتفسيرات المتعلقة بها كما هي عادته.
وهذا ما يجرّنا إلى منهج وطفي في ترجمة كافكا وتقديمه للقراء العرب، فهو يبدأ بوجه عام بتقديم العمل المترجم، ثم يقدم ما يطلق عليه إشارات وتحليلات وتفسيرات، لا تكتفي بتحليل وتفسير العمل المترجم فحسب، وإنما تضعه في إطار مجمل أعمال كافكا، بل وحياته. هكذا فعل مع قصة "الحكم" في الكتاب الأول، ثم مع "الوقاد" في الكتاب الثاني، ثم مع "الانمساخ" في الكتاب الثالث، ثم مع "رسالة إلى الوالد" في الكتاب الرابع.
ومشروع "الآثار الكاملة" لكافكا باللغة العربية لابراهيم وطفي يتألف من ستة مجلدات على النحو التالي: 1 - المجلد الأول: القصص، 2 - المجلد الثاني: رواية "المحاكمة"، 3 - المجلد الثالث: رواية "المفقود"، 4 - المجلد الرابع: رواية "القلعة"، المجلد الخامس: اليوميات، 6 - المجلد السادس: الرسائل.
ويقول ابراهيم وطفي: "لن ينشر كل مجلد في كتاب واحد، وإنما سيكون هناك تقسيم آخر، قائم على الموضوعات التي عالجها كافكا في آثاره الفنية، سينشر كل قسم منها في كتاب واحد. وستتطابق مجلدات الروايات مع أقسام ثلاثة، في حين سيضم كل قسم من الأقسام الأخرى نصوصاً من القصص واليوميات والرسائل". هكذا مثلاً نجد أن المجلد الذي بين أيدينا يدور حول "الأسرة"، بينما رواية "المحاكمة" التي ستنشر قريباً تقع في إطار موضوع "الذات"، كما نلمح نوعاً من الترتيب الزمني، فما صدر حتى الآن هو أبكر، أو من أبكر ما كتب كافكا.
ويوضح ابراهيم وطفي خطة عمله في هذا المشروع الضخم الذي يستحق كل تشجيع من قبل الأشخاص والمؤسسات الحكومية العربية، وغير الحكومية، فيقول: "كتب كافكا آثاره الفنية الأربعة المجموعة في هذا الكتاب خلال ستة أسابيع. وأمضيت في إعداد هذا الكتاب تسع سنوات دون انقطاع، باستثناء نحو ستة أشهر بسبب مرض. أي أن الوقت الذي أمضيته في ترجمة وإعداد هذه الآثار الأربعة يبلغ نحو 73 ضعفاً من الوقت الذي قضاه كافكا في كتابتها (هذا الفرق في الزمن قد يناسب الفرق بين عبقري كتابة ومستخدم)". ويواصل: "لكن هذا لا يعني أن كل كتاب من (الآثار الكاملة) سيحتاج إلى مثل هذه المدة. لقد احتاج كتاب (الحكم) إلى خمس سنوات عمل، أما كتب (الوقاد) و (الانمساخ) و (رسالة إلى الوالد) فقد احتاجت إلى ثلاثة أعوام ونصف العام. وكل كتاب من الكتب القادمة سيحتاج إلى مدة أقل. والسبب هو أنني عندما بدأت في إعداد كتاب (الحكم) إنما بدأت في إعداد (الآثار الكاملة). لم أعد بحاجة إلى بحث عن مصادر واختيار دراسات وقراءتها وإعداد تحضيرات ... إلخ، فهذا أنجزته فيما يتعلق بمجموع (الآثار الكاملة). كما أن حجم الدراسات سوف يقلّ - بعد الكتاب التالي - إذ أن القارئ العربي سيكون قد (مسك الخيط)، ولم يعد بحاجة إلى تفسيرات كثيرة كما جاءت في هذا الكتاب".
يقول ابراهيم وطفي: "عاش كافكا أربعين عاماً وأحد عشر شهراً. وأمضى طيلة حياته العملية موظفاً. ولم يتح له التفرغ لكتابته. كان يكتب في أوقات فراغه وأيام العطل وفي الليالي. وأبدع كل آثاره – في فترات متقطعة – خلال أحد عشر عاماً ونصف العام، بين أيلول 1912 وآذار 1924. ومات قبل أن يكمل رسالته. مات معدماً. لكن دار النشر الألمانية، التي تنشر كتبه حالياً، تكسب ملايين الماركات كل عام من هذه الكتب. وقد يكون السؤال جائزاً: ماذا كان كافكا جديراً أن يكتب، لو أتيح له التفرغ لكتابته، وأتيحت له حياة طويلة؟". ويختتم وطفي كلمته هذه بالسطور التالية: "ومترجم كافكا عاش طوال حياته "العملية" مستخدماً، يترجم في أوقات فراغه وأيام العطل وفي الليالي، لكنه – على عكس كافكا – لم يجد حتى دار نشر تنشر هذه (الآثار الكاملة)". وتكشف هذه السطور الأخيرة عن مدى شعور المترجم بارتباطه العميق بكاتبه، فيجد تطابقاً كبيراً بين حياتيهما. كما أنها تكشف عن مدى المشقة التي يواجهها المترجم من أجل نشر مشروعه الهام. وهنا نعيد مرة أخرى نداءنا لكل من يستطيع المساعدة الجدية في إخراج هذا المشروع للنور.
وبالإضافة إلى ما يضمه هذا المجلد الضخم من نصوص لكافكا، ومن كتابات عديدة تحليلية وتفسيرية وتعريفية مما يعدّ معها بمثابة كنز أو منجم من المعلومات عن كافكا ينشر لأول مرة باللغة العربية، فإن به عدداً كبيراً من الصور الفوتوغرافية لكافكا في مراحل عمره المختلفة، وكذا أفراد أسرته، مع صور لخط يد كافكا، وكذا لأغلفة كتبه بالألمانية.
تحية حارة للكاتب والأديب ابراهيم وطفي، متمنين له إتمام مشروعه كما يأمل، فهذا – ومن المؤكد أنه سيوافقنا - هو خير جائزة يتطلع إليها قبل وبعد أي شيء آخر.
السيد حسين
"العرب" (لندن)، 29/7/1999