2 - عـن كـافـكا
ما زلت أذكر انبهاري الشديد عندما اكتشفت فرانز كافكا في الستينيات من القرن الماضي، أنا مدين للدكتور مصطفى ماهر بتعرفي على عالم هذا المبدع العظيم والذي أعتبره إحدى العلامات الأساسية في الفن الروائي المعبّر عن الوضع الإنساني تجاه الوجود المحدود واللامحدود، تماماً مثل دون كيشوت لثرفانتس وموبي ديك لهرمان ميلفيل وشهرزاد ألف ليلة وأعمال ديستويفسكي الذي يُعتبر كافكا امتداداً له بشكل ما. لقد طرح ديستويفسكي أسئلة الوجود الإنساني من خلال شخصياته الخصبة المضطربة، وهكذا مهد للموقف الكافكاوي من العالم. ثمة صلة وثيقة أرجو أن تتناولها الدراسات الأدبية العربية.
رغم غرابة عالمه وكابوسيته يبدو مألوفاً، وكأننا جزء منه. يستيقظ بطل المسخ ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة، ورغم غرابة التحول إلا أن هذا يبدو منطقياً في إطار العمل الفني، بل إننا من خلال التفاصيل الدقيقة الواقعية التي يوردها المؤلف ولكن في بنية مغايرة للمألوف يشعر كل منا أنه تلك الحشرة. التفاصيل شديدة الواقعية، إنها مفردات واقعنا، غير أنها مصاغة في سياق مغاير يخلق واقعاً خاصاً، غريباً، لكنه جد مألوف لنا، شيئاً فشيئاً نشعر أننا جزء من هذا العالم. عندما قرأت "القضية" توحدت بالسيد (ك) الذي استيقظ أيضاً ذات صباح ليجد نفسه متهماً بتهمة لا يعرف عنها شيئاً، وسرعان ما يبدأ رحلة رهيبة رغم أنها تبدو عادية جداً في دهاليز المحكمة التي وجهت التهمة والتي لا يعرف (ك) طبيعتها او من المسئول عنها تماماً. نجح الدكتور مصطفى ماهر في ترجماته التي نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في نقل إيقاع كافكا اللغوي إلى العربية. هذا ما شعرت به. عندما قرأت القضية والقصر، أدركت خصوصية اللغة عند كافكا، وعندما قرأت الدراسات الأجنبية عنه فهمت بالتفصيل ما أدركته في مجمله. إنها لغة مباشرة، في صفاء البللور كما يصفها رونالد جراي في كتابه عن كافكا الذي ترجمه نسيم مجلي في المجلس الأعلى للثقافة وصدر عن المشروع القومي. إنها لغة لا تنبئ إلا بما تعبّر عنه، لكنها تبني عالماً من الأحلام الكابوسية والرؤى يؤدي إلى أعماق لا نهائية.
علاقة كافكا بما كتب، بل إن سيرته الخاصة تبدو كأنها عمل من إبداعه، علاقته بالأب والتي تتجسد في رسالته الشهيرة إلى والده بالإضافة إلى قصة "الحكم"، النص المؤسس لكل أعمال كافكا، وننشره في هذا العدد بترجمة ابراهيم وطفي، الأديب السوري المقيم في ألمانيا، وهو أحد اثنين آخرين أوقفا حياتهما لدراسة كافكا. الآخر هو الفنان التشكيلي الدسوقي فهمي والأديب، قرأ كافكا فضرب به أو لطش به، قرر أن يتعلم الألمانية ليقرأه في لغته الأصلية وترجم لنا روايته (أمريكا) والعديد من النصوص الأخرى التي نشرنا العديد منها في "أخبار الأدب". أما ابراهيم وطفي فقد أصدر مجلدين خصص الأول للأعمال الأولى، وقدم دراسات عميقة وشروحاً تعدّ الأولى من نوعها في ترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغة العربية، أما المجلد الثاني والذي يقع في أكثر من سبعمائة صفحة فقد خصصه لرواية "المحاكمة"، وأتمنى أن يصدر المجلدان في المشروع القومي للترجمة، وأن تصدر الأعمال الكاملة لكافكا التي بدأها المترجم الشاب علاء عزمي والذي ظهر بقوة من خلال "أخبار الأدب" وترجمته الرائعة لكتاب تشيخوف في صور. وقد بذل جهداً كبيراً في هذا العدد مع الزميل حسن عبد الموجود وقد توليا التحرير بالكامل طبقاً لما اعتدنا عليه في "أخبار الأدب" عند إصدار عدد خاص. خلال حياته نشر كافكا ستة أعمال قصيرة، وقرب نهاية حياته القصيرة طلب من صديقه ماكس برود أن يحرق كل ما كتب. موقف يذكرنا بما أقدم عليه أبو حيان التوحيدي عندما أحرق بنفسه ما كتب. غير أن ماكس برود حافظ على الأعمال ولم يحرقها، وبذلك أنقذ تراثاً إنسانياً رائعاً كان ممكناً أن يفنى. إنني أعتبر كافكا واحداً من أعظم المبدعين في تاريخ الإنسانية، ولا يعنيني من يهوديته إلا أبعادها الثقافية كما ظهرت عنده، ولا أتفق مع الآراء القائلة بصهيونيته. أفق كافكا ورؤيته وإبداعه أشمل بكثير، إنه كوني الموقف بكل المعاني. إننا نقدم هذا العدد الخاص تكريساً لحضور كافكا في لغتنا العربية. لا نرتبط بمناسبة معينة أو تاريخ محدد، حتى وإن بدا ميلاده 3 يوليو ورحيله 3 يونيو قريباً من صدور هذا العدد. إنه كاتب عظيم ومبدع كبير نحتاج إليه في كل وقت.
جمال الغيطاني
"أخبار الأدب" (القاهرة)، 5/7/2005