top of page

3 - ضرورة كـافـكا

لم يكن غريباً أن يحتل كافكا هذه المكانة على صفحات "أخبار الأدب" منذ صدورها وأن تنشر له كل هذه النصوص، فهو واحد من كبار الأدباء الذين أثروا، وانتقل تأثيرهم من جيل إلى جيل، بل إن بعض هذه الأجيال تأثر به دون أن يقرأ كثيراً من نصوصه، إنما من خلال المتأثرين المباشرين به. 

 

واللافت للنظر أن المتأثرين به لم يقلدوه، بل تأثر أكثرهم بالرؤية العامة لكافكا، وأضافوا إليها وطوروها، وهو التأثير الذي يمكن تلمسه في أدباء كثيرين من أرجاء كوكبنا، وليس في بلادنا وحدها، ربما لأن هؤلاء وأولئك وجدوا أنفسهم فيه، وشعروا به يعبر عن أشواقهم ومخاوفهم بكل هذا اليسر، يكاد أن يكون كافكا موقفاً من العالم، وليس مجرد كاتب انخرط في التجديد الجمالي وأنجز فيه الكثير، يكاد أن يكون "حالة" تشبه الإشراق الصوفي و"طريقة" في المكابدة و"محاولة" لمواجهة الرعب المسيطر. 

 

وعلى الرغم من أن هناك الكثير مما يمكن قوله عن كافكا، إلا أنه مثل نصوصه يبعث على الحيرة، فمن أين أبدأ، وكيف يملك هذا النحيل الواسع العينين والذي كتب كل هذه النصوص في أحد عشر عاماً فقط، كيف يملك كل هذا السحر المتسلل حتى آخر الروح؟

 

في بداية الأمر، وفي النصف الثاني من الستينيات، تعرفت عليه من خلال ترجمات الصديق الفنان الكبير الدسوقي فهمي في ملحق الراحل عبد الفتاح الجمل في "المساء". سحرني شأن كثيرين في "أبحاث كلب" و"الجحر" وغيرهما من القصص إلى جانب رائعته القصيرة "أمريكا" برسوم الفنان الكبير الدسوقي فهمي ثم في مجلة "جاليري 68"، وبعد ذلك ترجم له د. مصطفى ماهر عملين فطوق أعناق قراء وكتاب الستينيات ومن بعدهم بدَين كبير وهما "القضية" و"القصر".

 

تأكد سحر كافكا بهذه النصوص، وتأكدت محبته على الرغم من أن حياته كانت مجهولة في ذلك الحين، كان مجرد تشيكي يكتب بالألمانية، دون أن أفهم السبب، غامض تقريباً وربما قيل إنه يهودي، أي أن هذا لم يكن مهماً، فالنصوص المتاحة كانت خالية من الإشارات الدينية أو الصهيونية التي كان ممكناً أن تصنع حاجزاً.

 

أما ما كان مؤكداً فهو هذه الدقة والصفاء والكتابة الموقّعة من جراء هذه الدقة الفريدة، والإحكام وعدم التزيد والخلو من الحواشي والرفض الحازم للمجاز المباشر. يملك كافكا رعباً لا حد له من أولئك الأشرار المتربصين بنا دون أن نقترف ذنباً. لذلك فإن سحره يكمن في دقته وصفائه، وفي الوقت نفسه في الارتباك والغموض الذي يسود كامل النص. أود أن أؤكد على ذلك، فإن أشد سمات كافكا سحراً هو الدقة والغموض في الوقت نفسه. وربما لهذا السبب، أي سهولة نثره وجمله الواحة شبه التقريرية، كانت أمراً يمكن التأثر به دون أن تدري، فهو واضح صافي، والمشكلة هي الغموض الذي يسود النص في النهاية. كافكا إذن كان بالنسبة لي حالة من الإشراق الصوفي لا تتكرر ولا يمكن التأثر بها إلا بوصفها حالة كلية إن جازت العبارة، إحساس ما، موقف ضد الرعب الذي يسببه الأشرار والكراهية التي يضمرونها لنا.

 

وعندما ترجم كتاب روجيه جارودي "واقعية بلا ضفاف" كان يضم دراسة طويلة عن كافكا، وفي هذا الوقت بالتحديد تأثر أكثر أبناء هذه الأجيال بالماركسية، لذلك كانت دراسة جارودي الذي كان ما يزال ماركسياً، إلا أن رؤيته اتسعت لتعيد اكتشاف كافكا بوصفه كاتباً ضد الظلم والشر والقمع والقهر والرعب، بوصفه ساعياً للتمرد على كل ما يكبل الإنسان. أتذكر أن هذه الدراسة كانت مفيدة للغاية بالنسبة لي، فقد أدركت لماذا أنا مسحور كل هذا السحر به ولا أملك أن أرد سطوته التي تصل إلى أعماق الروح. كافكا خائف دوماً، بل مرعوب ومهدد دائماً، ليس من قوى ميتافيزيقية، بل من واقع عيني، حتى لو كان التحول إلى صرصار مقلوب على ظهره ينتظر الموت والكنس إلى خارج بيته. 

 

واستمرت علاقتي بكافكا بعد ذلك، حتى على الرغم من قراءتي لكتّاب كبار أحببتهم وهم مختلفون مع كافكا أشد الاختلاف، فما الذي يجمع تولستوي وفوكنر وفلوبير وبروست مثلاً بكافكا؟ صحيح انني لم أعد قراءته إلا مؤخراً بفضل الإنجاز الضخم الذي قدمه الناقد والمترجم السوري الكبير إبراهيم وطفي الذي لم أتشرف بمعرفته. قضى وطفي جانباً كبيراً من حياته متوفراً وعاكفاً على قراءته وترجمته والكتابة عنه وعن العلاقة بين أعماله وحياته على نحو لم أصادفه من قبل.

 

ولما كنت قد قرأت قبل هذا بفترة قصيرة رسائله إلى ميلينا التي ترجمها الصديق الدسوقي فهمي، ومجموعة تضم أقاصيص قصيرة وكتابات غير كاملة ونصوص متناثرة تحت عنوان "سور الصين العظيم"، فإن قراءة ما كتبه وترجمه إبراهيم وطفي أعادت اكتشاف كافكا مرة ثالثة.

 

أثارني بشدة مثلاً ما كنت قد لاحظته من قبل ولم أجد تفسيراً له، وهو أن أغلب نصوصه غير كاملة، بل إنه كان قد أوصى صديقه ماكس برود بحرقها قبل رحيله. لم ينشر كافكا في حياته إلا جانباً قليلاً جداً من أعماله. لم يكن ما يهمه إذن أن يصدر كتباً، بل مجرد أن يواجه الرعب ويدينه ويعريه ويكشف وجهه القبيح المختفي خلف السلطة الأبوية والسياسية والاجتماعية.

 

أتاح لي إبراهيم وطفي أن أتأمل حياته والأماكن التي عاش فيها وعلاقته بأبيه وفشله في علاقته بكل النساء اللائي عرفهن والطريقة التي كان يكتب بها وسيرته الذاتية وتواريخ كتابة أعماله. 

 

أدركت أن كافكا كتب نصاً واحداً ليدافع عن نفسه، كل أعماله نص واحد متكرر، إلا أنه يسبب آلاماً متجددة غائرة. الجنود الذين يحتلون مدينة في إحدى قصصه يبدون في البداية مجرد عابرين، لكنهم سرعان ما يحتلونها ويذلون أصحابها. مستعمرة العقاب وتلك الآلة الجهنمية المسلطة على الأبرياء. الصبي كارل روسمان الذي ارتكب الخطيئة الأزلية حين أكل ببراءة من تفاحة آدم فألقي به إلى الجحيم الأمريكي، ك وهو الحرف الأول من اسمه كما هو واضح وقد تحول إلى حشرة ذات صباح لعين، هو نفسه من يحاكم في جريمة غامضة لم يرتكبها، وهو نفسه أيضاً من نجده متوجساً وهو يتأمل القلعة.

 

نص واحد متكرر في منمنمات ذات إيقاع واحد، إلا أن كل منمنة هي عالم كامل.

 

كان كافكا الذي سعى طوال عمره القصير إلى انتزاع حقه في الكتابة، وبسببها فشل في كل شيء، إلا أنه أخلص لها ومنحها كل نفسه، كان يكتب دائماً في حالة إلهام متوقد، أنهى قصته الأولى "الحكم" في ست ساعات متواصلة. على مدى 11 عاماً كتب آلاف الصفحات من النصوص والرسائل والكتابات العصية على التصنيف وأغلبها غير كامل ولم يقم بتحقيقه وإعادة تحريره.

 

وإذا كنت قد قرأته في بدايات شبابي المبكرة، إلا أنني أعدت قراءة الكثير من أعماله في كهولتي. ولشد ما أدهشني أنه ما يزال طازجاً كأنه كتب في أيامنا هذه. كأنه يعيش بيننا ويواجه ما نواجهه. لذلك ما زال هذا النحيل بعينيه المرعوبتين صالحاً لإثارة كل هذا التوجس والخوف من آلات العقاب المنصوبة للجميع، ومن القضايا التي يمكن تلفيقها للجميع، ومن هذا العالم الذي يبدو كأنه "ماكيت" لعالم آخر غامض مختفي في مكان ما. 

 

سأكون أكثر إيغالاً في المباشرة وأقول إن كافكا عالج الدولة البوليسية في أكثر صورها وحشية وانتهاكاً للخصوصية، غير أنه لم يفعل ذلك متعمداً، أو راغباً في مجرد الإدانة وحدها. كان كافكا يتحدث عن نفسه، عن علاقته بأبيه وبعمله والنساء اللائي عشقهن والبشر الذين عاش بينهم. أكاد أجزم أنه كان من الذكاء والحساسية بحيث لم يتورط ، ونصوصه تشهد على ذلك، في أن يربط مثلاً بين سلطة الأب وسلطة الدولة على نحو ميكانيكي. 

 

كافكا إذن فيما أظن قريب منا إلى أقصى حد، وما زالت ملامح العالم التي كانت سائدة في بدايات القرن الماضي هي نفسها التي نعيشها في بدايات هذا القرن. لم تستطع الإنسانية أن تتجاوز محنتها، ولا حققت الأمن، ولا أجهزت على الاغتراب، بل ازدادت المحن وتجاوزت الدولة القامعة كل كوابيس كافكا وعذاباته. لو استيقظ كافكا الآن وأطل علينا لمات رعباً مرة أخرى بلا أي مبالغة. فقط لننظر حولنا في أركان الكوكب الذي نعيش فيه. 

 

بقي أن أشير إلى ما تردد في أواخر السبعينيات حول "صهيونية" كافكا ... والحقيقة أنني منذ هذا الوقت وأنا غير مقتنع بأي إشارات تدل على أن كافكا كان صهيونياً. وبالنسبة لي حسم كتاب العلاّمة إبراهيم وطفي هذه القضية نهائياً، فقد أورد نصوصاً محددة ووقائع بعينها أقنعتني تماماً.

 

إن كافكا أوسع كثيراً من أن نسجنه في قفص العنصرية الصهيونية، فهو لم يكن أصلاً قادراً على الحلم بأي عدالة أو سعادة أو بهجة تتحقق في أرض ميعاد سواء في فلسطين أو في أي مكان آخر، فضلاً عن النصوص القاطعة التي أوردها إبراهيم وطفي في المجلد الأول من عمله الضخم "الآثار الكاملة" لكافكا. 

 

محمود الورداني  

                                                         

"أخبار الأدب" (القاهرة)، 5/7/2005

bottom of page