top of page

4 - خـيانة كـافـكا

"لا يزال الليل ليلاً أقل من اللازم"

​كل عودة جديدة لقراءة أعمال فرانز كافكا هي خيانة لوصيته "احرق كل هذه الخربشات"، التي لم ينفذها صديقه ماكس برود. ذلك لأن هذه القراءة تضعنا وجهاً لوجه أمام رجل لم نكتشفه بعد، وكنا من قبل قد توهمنا معرفته.

 

حنيننا إلى كافكا الذي نظن أننا عرفناه وخبرنا عالمه يمحقه كافكا الذي نلتقيه، كما لو أننا نلتقيه أول مرة. حتى يخيل لي أن أطنان الورق التي كتبت من أجل أن تفسر رموزه وتحصي غرائبه وتتنفس هواءه المكتظ بالمعجزات لم تزح القناع عن وجه ذلك الكاتب الذي اعترف أن حياته تتألف من محاولات للكتابة، بل زادته غموضاً ووضعته في المكان المسيج بالشبهات. فكل قراءة جديدة لأدب كافكا إنما تضع القراءة التي سبقتها في موضع الشك، بالرغم من أن القارئ وهو يُقبل على قراءة كافكا يدرك جيداً أن كافكا الذي قرأه سابقاً لم يكن إلا وهماً، وهو يسعى إلى أن تهديه القراءة الجديدة إلى الحقيقة. غير أن الطريق التي تقود إلى كافكا غالباً ما تنزلق إلى طرق فرعية هي التجسيد الأمثل لمتاهة رجل قال في طلب العزلة: "لا يزال الليل ليلاً أقل من اللازم". تزيحه العودة إليه من المكان الذي احتله في الذاكرة لتحشر كافكا جديداً، هو مصدر أسئلة تطل بمطالب تأويلية لم تتصالح معها من قبل. وكما يبدو لي فإن كافكا، الذي لا يتجاوز عمره الأدبي الأحد عشر عاماً ونصف العام (أيلول 1912 إلى آذار 1924) والذي لم ينشر في حياته أكثر من مئتي صفحة، كان يعرف أن سر الشقاء الذي اكتشفه مبكراً والذي أفصح عنه في رواياته الثلاث التي لم ينشرها في حياته، سيكون محور الحياة الواقعية في المستقبل، لذلك أوصى بحرق تلك الروايات، ذلك لأنها من وجهة نظره لا تنطوي على أية وصفة أو حل بقدر ما تضيف فكرة أخلاقية غريبة إلى سجل الخلود العامر بالأفكار التقليدية التي نذعن لها مستسلمين كالحب والتضحية والإيثار والفداء .. الخ. الإذلال هو الفكرة الخالدة الجديدة التي أضافها كافكا، والتي استحق الوقوف أمامها كل هذا التلفت التي عبرت عنه أطنان الورق التي حملت كتابات عن أعماله الروائية. "لا بدّ أن أحداً قد افترى على يوزف ك.، إذ اعتقل ذات صباح دون أن يكون من شأنه قد فعل شراً". جملة كافكا الأولى في روايته "المحاكمة" رددتها ملايين الألسن فيما بعد في عصرنا الغاص بالظلم والاستبداد. حتى أنها صارت جملة عامية مشاعة ومبتذلة واستهلاكية وقد لا تعني شيئاً محدداً. فهي لا تقول إلا ما لا يمكن إدراكه وفهمه بيسر: آليات عمل السلطة في مواجهة الفرد. ولأن السلطة مفهوم تجريدي عثر الإنسان من خلاله على قوة من نوع ما، فقد صارت عنواناً لإذلال الآخر الذي يكفي أن يكون آخر سبباً لإلحاق الأذى به. صار العالم كافكاوياً بعد كافكا. بالتأكيد كان العالم كذلك قبله، غير أن الجملة تلك لم يكتبها أحد قبله. لقد مهد كافكا للاعتراف الذي صار جزءاً من يوميات البشرية من تشلي إلى الصين. كان هناك دائماً يوزف ك مُفترى عليه يُقاد إلى السجن من غير أن يفعل شراً. صار كافكا صفة. وهذا ما أوقعنا في سوء الفهم. صار كافكا عنواناً للتشاؤم والسوداوية والرعب. يقال إن كافكا من وجهة نظر مواطنيه التشيكيين كان كاتباً فكاهياً. قراءاتي لرواياته لم تؤهلني حتى الآن للوصول إلى استيعاب هذه القناعة الغريبة. غير أني أفكر بالمسافة التي تفصلنا عنها وعن زمانها، وهي مسافة يحرسها سوء الفهم. فهل كان كافكا على سبيل المثال ينصت إلى مخيلة مريضة، هي نتاج غربته الشخصية المركبة، أم أنه كان يرعى نبوءة حرص على أن يبقيها خفية بعد موته؟

 

غالباً ما يبدأ كافكا قصته بالجملة التي تقول كل شيء، جملة هي أشبه بالخاتمة. كما لو أنه يكتب بالمقلوب، الرجل الذي يعد اليوم واحداً من أعظم كلاسيكيّ الكتابة المعاصرة. تقنيته الصادمة تلك تضع قارئه في حاضنة قراءة جديدة، تعيد تربيته قرائياً، فالجملة التي تقول كل شيء تظل معلقة إلى النهاية مثل علامة استفهام. لذلك يمكنني القول إن كافكا سعى إلى أن يكون له نوع استفهامي من القراء، نوع يشبهه ويتشبه بأبطاله المدفوعين إلى مواجهة مصائر غريبة عنهم. تقول الجملة الأولى في روايته "التحول"، المعروفة عربياً باسم "المسخ": "حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة". تبدأ الرواية إذن من لحظة النهاية. لقد انتهى الكائن البشري الذي كانه سامسا لتبدأ سيرة الحشرة الكامنة في أعماقه، تلك الحشرة التي ما كان من الممكن أن ترى النور لولا التجارب المريرة التي عاشها سامسا والتي جعلته بمثابة مختبر للمهانة والإذلال والعزل والتهميش. بعد هذا التحول يعيش القارئ عبث القراءة الممتع، ففي الوقت الذي تتابع الحشرة سيرتها فإن هناك جانباً إنسانياً مقاوماً يمتد على أرض مليئة بالاكتشافات غير السارة، هي الأرض القلقة التي يضع كافكا قارئه عليها. يتضح للقارئ أن غربة سامسا في هيئته حشرة هي ذاتها غربته كائناً بشرياً. إنه كائن فائض وغير ضروري، كان تشرده صنعة تجلب الاطمئنان إلى الآخرين وتذيقهم نعمة الكسل. قارئ كافكا لا يكف عن السؤال وهو يتنقل بين السطور بحثاً عما يمكن أن يجعل خاتمة حياة سامسا مجرد نوع من الدعابة التي يمليها تعب عابر، غير أن تلك الأمنية تصطدم بالنهاية الحزينة التي تجعل من سؤال القارئ ضالة كافكاوية. أتساءل الآن: 

 

لماذا أتعب الكثيرون (في مقدمتهم يقف الشيوعي التائب روجيه غارودي) أنفسهم من أجل إثبات واقعية فرانز كافكا؟ ذلك لأن كافكا كان ولا يزال أكثر كتّاب عصرنا واقعية، بل إن واقعيته تكاد أن تلهم الواقع مزيداً من الواقعية الفجة. أتذكر أني وقفت ذات مرة أثناء تجوالي في متحف سويسري أمام كلب جياكومتي المذعور وصرت لا أفكر إلا بذعري الذي جعلني أجد في الكلب نبوءة لما انتهيت إليه شخصياً. من المؤكد أن هناك الملايين من البشر قد انتهوا إلى الاقتناع بعد قراءة "التحول" أن سامسا لم يكن إلا مرآة نبوئية لهم، لمجيئهم ملتبسين بأبهة الخوف والغربة والتشرد والنزق الهامشي. حضورهم المتأخر لا يعني عجائبية العالم الذي ابتكره كافكا. بإمكانهم أن يقولوا: جئنا متأخرين عن الحقيقة، وبذلك تعود كل كلمة كتبها كافكا إلى مكانها الواقعي. لقد وقف الكثيرون حائرين أمام سؤال من نوع: من ينتسب إلى الآخر، الواقع أم كافكا؟ بمعنى هل كان كافكا واقعياً أم أن الواقع صار كافكاوياً؟ في الحقيقة إن كافكا كان في الدرجة الأساس كافكاوياً، بالمعنى الذي يجعل من حياته الشخصية وهي التي لم تتخط الأربعين إلا بأشهر معدودة مقياساً لخبرة الضنى الكوني كله. نظر كافكا إلى حياته الشخصية من جهة بُعدها الرمزي، كونها حياة محتملة لا تخص فرداً بعينه وإن كانت قد اختارته ضحية لها. لذلك لم يكن الوصف شاغله بل كان يقول الحقائق التي اختبرها من جهة حساسيته، مبدعاً حضر في لحظة إلهام تارخي. كان تشارلز ديكنز يلح عليه ولم يكن يملك الخيال المرح الذي يلهمه أبطالاً على هيئة "أليس في بلاد العجائب".

 

لذلك لم تكن واقعية كافكا معجزة تأويلية، بل إن بإمكان إعادة قراءة كافكا أن تشعرنا بالخيانة، لا لأننا لم نحرق خربشاته، بل لأننا لم ننصت إليه جيداً، حيث كان بإمكان الإنصات إليه أن ينقذنا من الذهاب إلى المصير الذي انتهى إليه سامسا.

 

فاروق يوسف 

                                                            

"القدس العربي" (لندن)، 10/7/2005

bottom of page