top of page

5 -  عندما يكون القارئ قريناً غامضاً

وطفي وأخريف ضيفان مسحوران على مائدتي كافكا وبيسو

 

1 - "أرجو أن تعتبرني حلماً"، كان بإمكان الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا أن يقولها بدلاً من الكاتب الألماني (تشيكي المولد والحياة) فرانز كافكا. ولكنه قالها فعلاً عن طريق أقرانه الشعراء الثلاثة الذين اخترعهم ليؤسس كل واحد كياناً شعرياً مفارقاً ومغايراً له. بطريقة أشد قسوة قالها الروائي خوسيه ساراماغو حين كتب روايته الحزينة عن ريكاردو رييس، أحد أولئك الأقران المحتملين. في "هذيان" روايته الصغيرة يقف الروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي بأولئك الأقران حول سرير بيسوا في لحظة احتضاره، هذا ما أراد تابوكي قوله بشاعرية جارحة. أما كافكا فإنه لم يتح له سوى أن يعيش حياة واحدة، خرج منها خائباً، غير أن خيبته لا تزال تطاردنا مثل نمر مذعور. حضر الإثنان من أجل أن يغيبا وغابا حين شعرا أن حضورهما صار ممكناً. وهذا بالضبط ما تفعله الأحلام. 

                                                         

2 - "ثمة الكثير من التفكير الميتافيزيقي في انعدام التفكير في أي شيء / ما هي الفكرة التي لديّ عن العالم؟ / ماذا أعرف أنا عما لديّ من أفكار عن العالم؟ / سأفكر في هذا كله، / عندما أسقط مريضاً."

 

أبيات بيسوا، عفواً قرينه البرتو كاييرو، يمكن إضافتها إلى رواية "التحول" أو "الانمساخ" بلغة ابراهيم وطفي. لا أظنها ستحل طارئة مثل لطخة، لن تكون حشواً مستعاراً، بل قد يتخلى كافكا نفسه من أجل أن يضمها إلى كتابه العزيز عن الكثير من سطوره المكتوبة بعناية تقنية فائقة. غير أنه لم يعثر على تلك الأبيات، لا لأنها لم تترجم إلى واحدة من اللغات التي كان يتقنها، بل لأنها قد لا تكون قد كتبت يوم أتم كتابة روايته الصغيرة تلك. ولكن هل كان لزاماً لتلك الأبيات أن تُكتب من قبل الشاعر البرتغالي لكي تكون موجودة؟ كل سطر من رواية كافكا يذكر بها، لقد بدأت المعرفة لدى غريغور سامسا بعد أن عجز عن مغادرة سريره بهيئته الجديدة، التي هي هيئة حشرة. ألا يسلمنا هذا الحدث الملهم إلى المرض الذي أشار إليه (كاييرو) بيسوا، ذلك المرض الذي يضعنا في قلب فكرتنا عن العالم لا في قلب العالم، ليلغمنا بالأسئلة ويبعثرنا حسرات.

 

3 - لا يزال تسلسل فصول "المحاكمة" رواية كافكا الأهم تحيّر الباحثين، وهذا بالضبط ما فعله كتاب "اللاطمأنينة" (بلغة مهدي أخريف) لبيسوا. الدفاتر التي ضمت الكتابين غير مرقمة والفصول لا تحمل أية إشارة تدل على تسلسلها. باستثناء الفصلين الأول والأخير فإن رواية كافكا أخضع تسلسل وقائعها لاجتهادات كثيرة، كذلك كتاب بيسوا، لا تزال قراءته ممكنة بمزاج مرح لا يخضع القراءة لتسلسل بعينه. يأس الكاتبين (وهما الأكثر ضجراً من بين كتاب عصرنا) لا يفسر وحده تلك الفعلة، بل يمكنني تخيل أنهما كانا يلهيان بغية العثور على قارئ من شأن عبقريته أن تقود كتابيهما إلى شكليهما الأصليين، اللذين صارا مع الزمن نوعاً من الألغاز المضافة. يقول بيسوا: لم أتمكن قط من قراءة أي كتاب باستسلامي كلية له، دائماً مع كل خطوة يأتي التعليق من الذكاء أو الخيال على المقروء ليوقف تسلسل السرد. بعد دقائق أصبح أنا كاتب الكتاب، وما هو مكتوب فيه لا يغدو موجوداً في أي كتاب.

 

4 - يقترح ابراهيم وطفي صفته، قارئاً لكافكا، وهذا ما يفعله المهدي أخريف بالنسبة لبيسوا. للوهلة الأولى يبدو الإثنان على قدر هائل من التواضع الأخلاقي إزاء حقيقة ما فعلاه، ترجمة وبحثاً وتقصياً وتأليفاً. ولكن إغواء ذلك التواضع سرعان ما يشف عن حقيقة مفهوم القارئ لدى الكاتبين، وهو ما حاولا من خلال جهدهما الدؤوب والمتأني والصبور والمتقن والمتأنق أن يتسللا به إلى الثقافة العربية. وهو المفهوم عينه الذي انطوى عليه تعليق بيسوا السابق: القارئ الذي يستولي على الكاتب، يصيره في لحظة خلق مناوئة، لا ينتحله بل يكمل طريقه وإن بعُدد وأدوات قياس أخرى. القارئ هنا لا يعيد الكتابة عن طريق لغة أخرى وهو يترجم وحسب، بل وأيضاً يطرح للتداول ما انتهت إليه بصيرته من كشوفات رؤيوية. لقد أباح وطفي على سبيل المثال لنفسه أن يقترح تسلسلاً جديداً لفصول رواية كافكا "المحاكمة"، وما كان ليقوم بذلك لو أنه وهو المولع بكافكا عشقاً، قد شعر أن فعلته ستحدث خدشاً ما في سيرة تلك الرواية العظيمة، بل إن تماهيه مع كافكا هو الذي أملى عليه إلهاماً من هذا النوع. وطفي وأخريف (قد لا يعرف أحدهما الآخر) نموذجان للقارئ الفريد من نوعه، ذلك القارئ الذي اقترحه بيسوا ويئس كافكا من العثور عليه، وهو القائل: لا أصبو إلى نصر. ولكن ألا يُعدّ ظهور قارئ بمستوى ومن نوع وطفي أو أخريف بمثابة نصر للكتابة؟ 

 

5 - منذ ثلاثين سنة قرأت كافكا. كل رواياته كانت مترجمة إلى العربية. غير أنني حين قرأته بلغة ابراهيم وطفي، أيقنت أن ما كنا نعرفه لم يكن كافكا، بل ظله. لقد اخترعنا شبح كافكا لأننا كنا في حاجة إليه. اكتفينا بذلك الشبح، إلى أن ظهر وطفي، ليجلب لنا الأصل، فالرجل قضى السنوات الثلاثين التي قضيناها ونحن نتملى وهم كافكا في مرايانا، وهو يبحث عن حقيقة كافكا. فِعل نادر هو أشبه بالمعجزة في حياتنا وثقافتنا العربيتين، أن ينذر مثقف حياته كلها من أجل كاتب عالمي بعينه، هل أقول من أجلنا؟ ما فعله وطفي فعله أخريف هو الآخر، حين أهدى العرب شاعراً ضرورياً وحاسماً في حداثته هو بيسوا. بعدهما يمكننا القول: إننا نعرف كافكا وبيسوا، نعرفهما كما لو أنهما كتبا من أجلنا، وهما فعلا ذلك بالتأكيد. يخبرنا وطفي بأسماء عدد كبير من قراء كافكا الألمان، أولئك الباحثين الذين نذروا أنفسهم كما فعل وطفي نفسه من أجل أن يكون غموض الكاتب الذي شغفوا به واقعياً وعميقاً. فيما يستعين أخريف بالشاعر المكسيكي أوكتافيو باث من أجل أن يعينه على اكتشاف الشاعر البرتغالي، وأنا على يقين من أن أخريف يمتلك الفضول عينه الذي لدى وطفي، من جهة ذهابه اللاهث إلى قراء شاعره المفضّل الآخرين، باحثاً لديهم عما يمكن أن يسند دوره الريادي في القراءة. قارئ من هذا النوع هو مبعوث الكاتب وحامل رسالته الذي لا يكفّ عن التنقيب في اللمعان بحثاً عن شرارة لا تزال عاكفة على ذاتها. هذا القارئ هو بوصلة الكاتب الحية التي تعمل بخيال منفعل يضع القراءة عند تخوم حقيقتها: فعلاً حدسياً يوازي من جهة ضرورته فعل الخلق الفني.

 

فاروق يوسف   

                                                          

"القدس العربي" (لندن)، 19/10/2005

bottom of page