top of page

6 - كـافـكا في النقد العربي

مقدمة أو فإشارة

مواصلةً لمشروعه الجادِّ في ترجمة آثار كافكا مع تفسيراتها (*) إلى العربية، ينحو إبراهيم وطفي هذه المرّة منحىً آخرَ في الكتاب الذي أعدّه أخيراً: "كافكا في النقد العربي (البداية)، 1994 – 2005" والصادرة طبعته الأولى في سبتمبر من هذا العام (2006). 

 

الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات (إثنتين وأربعين مقالة، مع ملاحظة أنّ من بين المقالات قصتان قصيرتان، كما أنّ المقالة رقم إحدى وأربعين، وكما سيأتي لاحقاً، هي مجموعة شهادات عن كافكا وردت جميعها في جريدة "أخبار الأدب") لعدد من الكتّاب يقارب عدد المقالات (للكُتّاب: السيّد حسين وناصر ونوس وفرج العشة مقالتان لكل كاتب، وهناك كاتب وحيد هو إبراهيم العريس له ثلاث مقالات، أما باقي الكتّاب فلكلٍّ مقالةٌ واحِدة). ومن بين مقالات الكتاب هناك خمسٌ فقط لكاتِبات هن: أنيسة عبود وحليمة حطّاب وجمانة حدّاد وماري طوق و فرح جبر، الأولى مِن سوريا والثانية من مصر والثلاثة الأخيرات مِن لبنان.

 

وتمتد الفترة الزمنية التي نُشرت فيها مقالات الكتاب، في الصحف ومواقع الإنترنت العربية، كما أشار وطفي في غلاف الكتاب، من سنة 1994 إلى 2005 . مثلما جاءت في الغلاف كلمة (البداية) في إشارةٍ ربما إلى مقالات أخرى قد تصدر في كتاب ثانٍ فيما بعد. 

 

يقول وطفي في مقدمته التي أسماها "إشارة": "ما جاء في هذا الكتاب يمثل بداية المرحلة الثانية في تلقي آثار كافكا في البلاد العربية. وهو يضم المقالات التي عثرت عليها، بمجهود شخصي، في الصحف العربية، الورقية والإلكترونية، الصادرة بين عامي 1994 و2005".

 

وكان وطفي قد ذكر في بداية "إشارته" إلى ما أسماه: المرحلة الأولى مِن وصول كافكا إلى القارئ العربي وتمتد بين عامي 1947 و1994، وقد وضع أسسها وحدّد معالمها اثنان هما طه حسين (الذي نشر أول مقالة بالعربية عن كافكا في مجلة "الكاتب") وسعدي يوسف.

 

ولم يشأ وطفي أن يحول بين المقالات والقارئ، بل تركها تحكي بلسان كلماتِها وأفكارِها، فيقول: "تحوي هذه المقالات بعض "المعلومات" الخاطئة، لم يجر حذفها ولا الرد عليها، إذ سيكتشفها القارئ بنفسه. وقد جاءت نقلاً عن مصادر غير رصينة، أو تأليفاً متعمداً".

 

وبهذا يترك وطفي للقارئ مهمّة اكتشاف "المعلومات" الخاطئة التي أشار إليها أعلاه، فكأنّه يقول للقارئ: ليس عليك أن تكون متلقّياً لما تقرأ فحسب، بل عليك أن تستخدم معرفتك وحاستك النقدية لتميّز الخطأ والصواب الذي احتوته المقالات.

  

وفي ظنّي أنّ الطريقَ لهكذا قراءة واحدٌ من اثنين: أمّا أن يكون القارئ قد قرأ مِن قبل آثار كافكا أو بعضاً منها، أو أن يدع مقالات الكتاب تجادل بعضها بعضاً ليستبين له من هذا الجدل تلك "المعلومات" الخاطئة التي نبّه إليها وطفي في "إشارته"، ولكن مِن دون أن يبيِّنها.

 

وربّما يكون القارئُ الذي قرأ آثار كافكا أو دراسات عنها بلغة أخرى غير العربية أحسنَ حظّاً هنا كونه يستطيع أن يقارن ما قرأه هناك بما يجده هنا في هذي المقالات العربية الحرف واللسان.

 

وإن كُنّا نتمنّى لو أبانَ وطفي، وهو الأكثر دراية بهكذا "معلومات" خاطئة، تلكم الأخطاء حتى يتبيّنها القارئ، وتتكوّن لديه بذا معلومات أخرى صحيحة ترسم صورةً صحيحةً لكافكا وآثاره.

 

الحُـكـْم

 

في المقالتين الأوليين: "تقديم جديد بالعربية لكافكا" للسيّد حسين و"مشروع لإعادة ترجمة كافكا بأسلوب جديد" لناصر ونوس، يتناول الكاتبان قصة (الحُكْم) وترجمة وطفي لها، فيقول السيد حسين: "فقد ضم (الكتاب) ترجمة لقصة قصيرة لكافكا وهي (الحكم) التي غطت 20 صفحة من الكتاب الذي يضم ما يزيد عن مائتي صفحة من القطع الصغير، بينما امتلأت الصفحات الباقية وهي 180 صفحة بتحليل للقصة وأهميتها وبنيتها وهيكليتها ووضعها في مجموع آثار كافكا".  
ومثله تعرّض ناصر ونوس لترجمة وطفي لـ (الحكم) والدراسات التي تناولتها بالتحليل والتفسير، فكتب: "لا يسعنا إلا أن نقول، دون مبالغة، إن الثقافة العربية محظوظة أن يأتي مترجم مثل ابراهيم وطفي ليترجم إليها أعمال كافكا، خاصة وأنه (المترجم) يأتي بطريقة جديدة في تقديم كاتب عالمي إلى القارئ العربي حيث أن لا يكتفي بترجمة عمل لكافكا ونشره وإنما يتبعه بدراسة أو مجموعة دراسات عنه وعن كاتبه". 

 

يقول وطفي في الفصل الأول من القسم الثاني من الكتاب الأول في المجلد الأول والذي يلي مباشرةً ترجمته قصة (الحكم)، والمُعَنْون "إشارات وتحليلات وتفسيرات": "كتب كافكا الحكم كجزء من يومياته الشخصية التي كان يكتبها منذ عام 1910، واستمر في كتابتها حتى آخر حياته. بتاريخ 23 أيلول 1912 كتب كافكا في يومياته ما يلي: "هذه القصة (الحكم) كتبتها دفعة واحدة ليلة 22 – 23 من الساعة العاشرة مساء حتى السادسة صباحاً. تجمّدت ساقاي حتّى أنه أصبح مِن العسير عليَّ أن أسحبهما مِن تحت الطاولة. المجهود الهائل والغبطة العامرة، كيف تطوّرت القصة أمامي، وكيف تقدّمت في فيضان. عدّة مرات في هذه الليلة حملت ثقلي على ظهري. كيف يمكن أن يقال كل شيء، كيف تُعدُّ نار متأججة لكلّ الخواطر وأكثرها غرابة، تحترق وتنبعث. كيف أصبحت الدنيا زرقاء أمام النافذة. مرّت عربة. وعبر رجلان الجّسر. في الساعة الثانية نظرتُ إلى الساعة للمرّة الأخيرة. وإذ دخلتْ الخادمة الغرفة الأمامية للمرّة الأولى، كتبت الجملة الأخيرة. إطفاء المصباح وانتشارُ ضوء النهار. آلام القلب الخفيفة. النُّعاس الذي زال منتصف الليل. الدخول المرتجف إلى حجرة الأختين. قراءة. قبل ذلك التمطّي أمام الخادمة والقول: "لقد كتبتُ حتّى الآن". منظر الفِراش الذي لم يُمَسّ، وكأنه أُدخِلَ لتوه. والقناعة التي تأكدت أنني بكتابتي الروائية إنّما أٌوْجَدٌ في قيعان كتابة مزرية. (أما الآن) فهكذا فقط يمكن الكتابة، فقط في مثل هذا السياق، وبهذا الانفتاح الكامل للجسد والروح".

 

وهكذا نستطيع أن نتبيّن أهمية كتابة قصة (الحُكم) لكافكا واحساسه أنّه "هكذا فقط يمكن الكتابة"، فيُمكننا القول إذاً إنّها البداية الحقيقية لأدب كافكا.

 

يقول وطفي في الفصل السادس مِن فصول الدراسات والتفسيرات التي تلي ترجمته لـ "الحكم"، وعنوان الفصل ("الحكم" في إطار مجموع آثار كافكا): "اعتبر كافكا قصة الحكم عمله الفني الحاسم الذي يمثل نقطة اختراق إلى أسلوبه الخاص به ومثالاً يحتذى به في الكتابة. وكانت هذه القصة هي الأثر الفني الوحيد الذي أفرد كافكا لبنيته تحليلاً مُفصّلاً. كما أن الحكم هي أنموذج لكل آثار كافكا اللاحقة. وهي الأثر الذي قامت على أساسه قصص كافكا الكبرى كافّة وروايتا "المحاكمة" و"القلعة". وكلّ هذه الآثار تمثل تطويراً ساحراً وتنويعاً على البنية الأساسية في قصة الحكم".

 

رسالة إلى الوالد 

 

تتناول عشر مقالات (من الثالثة وحتى الثانية عشر) رسالة كافكا الشهيرة إلى أبيه والمسمّاة "رسالة إلى الوالد". في دراسته بعنوان "منذ بدء تاريخ البشرية" كتب فيلهلم إمريش: "كتب فرانز كافكا رسالة إلى الوالد عندما كان يبلغ السادسة والثلاثين من عمره، وقبل وفاته بنحو خمسة أعوام. كان يقف آنذاك، عام 1919، في ذروة إبداعه الأدبي، إذ كان قد كتب قصص "الحكم" و"الانمساخ" و"في مستعمرة العقاب" ومجموعة القصص القصيرة التي صدرت في العام نفسه بعنوان "طبيب ريفي"، كما كان قد كتب روايتي "المفقود" و"المحاكمة" ونصوصاً أخرى. لذا يبدو مما يثير العجب أكثر أن يقوم كافكا في مثل هذا الوقت، الذي كان يتمتّع فيه بقدرة عالية على الإنتاج الأدبي، بمثل هذه المحاكمة الرهيبة مع والده".

 

ولننتقل إلى بعض المقالات التي تناولت "رسالة إلى الوالد". يقول ناصر ونوّس في مقالته "فرانز كافكا وسيرة معاناته مع والده": "وفي "رسالة إلى الوالد" يتابع فرانز كافكا موضوعة العلاقة مع الأب. وهي الموضوعة التي بدأها مع قصة "الحكم". كتب كافكا هذه الرسالة عندما كان عمره 36 عاماً، وبعد كتابة "الحُكم" بسبعة أعوام. وتعتبر بمثابة تصفية حساب نهائية لعلاقته مع والده".

 

في مقالته "الهوية الممزقة"، كتب فرج العشة: "تمثل "رسالة إلى الوالد" سيرة كافكا الشخصية، واعترافه الفذ بالمسكوت عنه مِن عالمه الخاص الحميم المخفي، وتعتبر مفتاح الولوج إلى "قلعة" عالمه الشعري السحري. إنها مركز كل ما كتب مِن قصص وروايات ويوميّات ورسائل، كما هو والده مركز حياته نفساً نفساً، وهاجساً هاجساً، نقطة الصفر في الحياة والكتابة، ألم يكتب إليه: "كتابتي كانت تدور حولك. والحقّ كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه على صدرك". 

 

ويكتب علي ديوب في مقالته "كافكا في رسالة إلى الوالد: تفكيك للسلطة ودفاع ضد القمع": "ترى هل يحالفنا الصواب لو اعتبرنا الخوف موضوع أدب كافكا مفتاحه لفهم الواقع؟ الخوف في الانمساخ، الخوف في الحكم، الخوف في الرسالة .. مفتاح للقبض على الحرية". 

 

فيما يكتب عبد الباقي يوسف في مقالة "رسالة إلى الوالد، التوقيع: فرانز كافكا": (في هذه المناسبة نتعرض لأبرز وأهم رسالة تربوية كتبها أهم وأبرز روائي في القرن العشرين على الإطلاق. إنه فرانز كافكا صاحب روايات "أمريكا" و"المحاكمة" و"القلعة" وقصص "المسخ" و"في مستوطنة العقاب"، والتي شغلت وما تزال تشغل معظم الشرائح من الناس والنقاد والمهتمين، فظهرت مقولات مثل: سوداوية كافكا، والأدب الكافكاوي، وكأنك تقرأ رواية لكافكا.  ولذلك فإن كافكا لا يوجه الرسالة لأبيه فحسب، بل يوجهها إلى معظم الآباء في العالم ودون استثناء). 

 

وعلى طرفٍ آخر يكتب نزيه الشوفي في مقالته "رسالة إلى الوالد لكافكا": "على أية حال إن رسالته كلها تكرار لفظي متنوع. وغوص في تفاصيل الذات المفرطة .. والتي استمرَت عبر الأربعين سنة من حياته وبقي يطلب مِن أبيه أن يعينه ويقدّم له المساعدات وتحقيق الرغبات الهائلة، رغم أنه موظف يتلّقى أجراً ومنفصل عن أبيه لكنّه متعلّق به، ويوجه رسائل إليه مفعمة بالإلفاظ المقذعة، باختصار إنه مثال للولد "الدلوع" ولد من الأربعين يخربش على الورق فتصبح خربشاته أدباً شاملاً هامّاً لم يبدعه ابن امرأة. فسبحان الله". 

 

وربما يجدر هنا أن نقارن ما كتبه الشوفي بما ختم به فرج العشة مقالته "الرسالة العملاقة": "ويبقى أبو كافكا إذا ما قورن بالأب العربي، أباً عطوفاً رؤوفاً!".  

 

وهكذا يمكن أن نرى كيف تتباين النظرة إلى الأثر الأدبي الواحد وشخوصه، كلٌّ ينظرُ مِن زوايةٍ ما تقرب وتبعد من ذلكم الأثر بمقدار ما في جوف الناظِر مِن تلاقٍ أو تنافر مع أو مِما يقرأه.

 

أما إبراهيم وطفي فكتب في الكتاب الرابع من المجلد الأول (الآثار الكاملة مع تفسيراتها) وتحت عنوان: (لماذا "رسالة إلى الوالد"؟):  

 

"لقد أمضى كافكا طفولة انعزالية تميّزت بانعدام الثقة بالنفس وبالخوف من الفشل. وطوال حياته كان واقعاً تحت نفوذ والده المتسلط والناجح. وكان يفهم عمله الأدبي على أنه محاولة هروب من الوالد. وخير ما يعبّر عن علاقة كافكا بوالده هو رسالة إلى الوالد. وهذه الرسالة هي وثيقة عن سيرة حياة قبل أن تكون نصاً ذا طابع أدبي بحت، لكن النقّاد أعطوها صفة أدبية. وتمثل "رسالة إلى الوالد" تصفية حساب عامة، لا تعرف الرحمة، ليس مع والده فحسب، وإنما مع نفسه أكثر. وهي، وإن لم تصل إلى المرسلة إليه، ظلّت ذات أهمية بالغة لكاتبها، وطبعها بيده على الآلة الكاتبة (باستثناء الورقة الأخيرة). لقد كُتبت "رسالة إلى الوالد" بالقرب من براغ في العقد الثاني من القرن العشرين. وطُبِعت لأول مرة في ألمانيا في منتصف القرن. وطُبِعت ودرست بالشكل الجدير بها، أخيراً، في ألمانيا في العقد الأخير من هذا القرن (أي العشرين). وهنا يستقبلها القارئ العربي، كاملة لأول مرة. ما علاقة مجتمع براغ آنذاك بالمجتمع الألماني والمجتمع العربي الآن؟ 

 

إنّ سُلطة الأب هي، في أي مجتمع، السُلطة الأولى - بين ثلاث سُلطات - التي ينبغي الانعتاق من نيرها، إذا أراد المرء أن يكون إنساناً حُرّاً، مستقِلاً، يقرر مصير نفسه بنفسه طبقاً لطبيعته وميوله وأهدافه".

 

ملف "أخبار الأدب": كافكا، متاهة الواقع وواقع المتاهة

 

ثلاث مقالات (من التاسعة والثلاثين إلى الواحد والأربعين) مُختارة مِن العدد الخاص مِن "أخبار الأدب" وهو العدد رقم 625 بتاريخ 5 يوليو 2005، وعنوانه "كافكا: متاهة الواقع وواقع المتاهة". ففي مقالته "عن كافكا" يقول جمال الغيطاني: "رغم غرابة عالمه وكابوسيته يبدو مألوفاً، وكأننا جزء منه، يستيقظ بطل المسخ ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة، ورغم غرابة التحول إلا أن هذا يبدو منطقياً في إطار العمل الفني، بل إننا مِن خلال التفاصيل الدقيقة التي يوردها المؤلف ولكن في بنية مغايرة للمألوف يشعر كلٌّ منّا أنه تلك الحشرة، التفاصيل شديدة الواقعية، إنها مفردات واقعنا، غير أنها مُصاغة في سياق مغاير يخلق واقعاً خاصّاً، غريباً، لكنه جد مألوف لنا، شيئاً فشيئاً نشعر أننا جزء من هذا العالم". 

 

المقالة التي تلي مقالة الغيطاني هي لروائي مصري آخر هو محمود الورداني وعنوانها "ضرورة كافكا"، وفيها يكتب: "وإذا كنت قد أعدت قراءة كافكا في بدايات شبابي المبكرة، إلا أنني أعدت قراءة الكثير مِن أعماله في كهولتي. ولشد ما أدهشني أنه ما زال طازجاً كأنه كتب في أيامنا هذه. كأنه يعيش بيننا ويواجه ما نواجهه. لذلك ما زال هذا النحيل بعينيه المرعوبتين صالحاً لاثارة كل هذا التوجس والخوف مِن آلات العِقاب المنصوبة للجميع، ومِن القضايا التي يكمن تلفيقها للجميع، ومِن هذا العالم الذي يبدو كأنه (ماكيت) لعالم آخر غامض مختفي في مكانٍ ما".

 

أمّا المقالة الثالثة التي اختارها وطفي مِن ذلك العدد الخاص من "أخبار الأدب" وعنوانها "كافكا أوّل المحرضين على الكتابة، كتاب وشعراء: بعضُهم أحبه وآخرون كرِهوه لكنّهم اتفقوا على أهميته"، فهي (شهادات) أدلى بها كلٌّ من: إبراهيم عبد المجيد وأحمد أبو خنيجر وجمال الجمل وخليل صويلح وشعبان يوسف وصنع الله إبراهيم وعبد الغفار مكاوي ومحمد إبراهيم طه ومحمد المخزنجي ومحمد سليمان ومصطفى ذكرى ومنتصر القفاش ونصّار عبد الله وياسرعبد اللطيف ويوسف أبو رية ونجيب محفوظ. فإذا أخذنا هنا شيئاً مِن تلك الشهادات، فلنسمع ما قاله الشاعر نصّار عبد الله: "عندما قرأتُ كافكا لأول مرة وبوجه خاص: "المحاكمة و "القلعة" و "مستوطنة العقاب" أحسست بأن كوابيسه تتقاطع مع كوابيسي الشخصية ومع كوابيس وطن بأكمله!! لقد كنت، وأظنني لا أزال، ينتابني إحساس بأن حياة الإنسان سواء على المستوى اليومي الفردي أو على المستوى السياسي أو على المستوى الوجودي ماهي إلا مواجهة متصلة لسلسلة من الاتهامات التي يوجهها إليه مِن لا نعرف على وجه التحديد مِن أعطاهم الحق في الاتهام، وأفدح مِن هذا أن أي اتهام لا يمكن أن يُفضي إلى تبرئة قط بل إنه يُفضي إلى اتهام جديد أو إلى محاكمة لا تعرف فيها مَن يُحاكمك على وجه التحديد، ولا مَن أعطاه الحقّ في المحاكمة، والمصير المؤكد في النهاية هو الموت لأن التهمة الحقيقية هي مجرّد الوجود، وهي تُهمة لا سبيل إلى دفعها بحال مِن الأحوال".

 

ألا يستدعي ما يقوله نصّار عبد الله هنا، ما صرخ به صلاح عبد الصبور في قصيدته (الظِّلُّ والصَّليب):  

 

"هذا زمنُ الحقِّ الضائع
لا يعرِفُ فيه مقتولٌ مَن قاتِلُهُ ومتى قتَلَهْ
ورؤوسُ الناسِ على جُثثِ الحيوانات
ورؤوس الحيواناتِ على جُثثِ الناس
فتحسّسْ رأسك ..!!
فتحسّسْ رأسك ..!!"

 

ويكتب منتصر القفاش: "وهذه السِّمة هي ما تشدني لأعمال كافكا، القدرة على أن تحكي غير المألوف دون أن تحتاج إلى تبريره وتقديم الأسباب التي أدَّت إليه ودون أن تحتاج إلى تأكيدات مستمرة إلى أنه مفارق لما اعتدنا عليه، وكافكا من الكُتّاب الذين وصلوا بهذه السِّمة إلى أقصى مدىً ممكن، ولا يترك شخصياته تنعم بما تراكمه مِن خبرات على مدار التجربة بل يدفعها أكثر إلى ملاقاة ما لا تتوقعه ولاتقدر على السيطرة عليه". 

 

ويكتب مصطفى ذكرى: "يترك كافكا دائماً مِن يقرأه دون شبع، كما تستدعي المفاجأة والغرابة والبوليسية والتحوّل، تستدعي أيضاً الخوف، وهنا يكمن أكثر حلول كافكا ثورية وراديكالية على سلفيه العظيمين دوستويفسكي وإدجار بو، هنا الخوف مرحل قليلاً إلى البلادة والخمول، فلا ميلودرامية دوستويفسكي، ولا شاعرية إدجار بو. كان كافكا ينفر مِن الكتابات الجمالية. أتصوّر ماذا لو قرأ داريل وميلر وإدوارد الخراط". 

 

أمّا عبد الغفّار مكّاوي فيقول: "إنّنا في حاجة لأن نتعلّم من كافكا التواضع والصدق والبساطة وعدم الإدعاء الذي أصبح سِمة مثقفين عرب كثيرين، كذلك يجب أن نتعلم منه العودة إلى الينابيع القديمة الأصيلة، العودة إلى الأسطورة، والتي اغترف منها كل الأدباء العظام. كما أننا في حاجة إلى أن نعرف أن الأديب ليس بالضرورة شخصاً مثقفاً أو دودة كتب أو ملزماً بمحاكاة الأدباء العظام. فكافكا وتر لا يرتجف إلا مِن الداخل ولا يهتز من أي رياح تأتيه مِن الخارج".

 

المحاكمة، في مستوطنة العقاب والقلعة

 

في مقالته "المحاكمة ... ولكن لماذا لم يقاوم السيد ك.؟" يتناول إبراهيم العريس رواية كافكا "المحاكمة" فيكتب: "على الرغم أن رواية "المحاكمة" لكافكا تعتبر من أشهر روايات هذا الكاتب التشيكي باللغة الألمانية، فإن كافكا لم ينجزها أبداً، حتى وإن كان قد بدأ كتابتها قبل سنوات من رحيله". ثم يضيف قائلاً: "والحقيقة أنه رغم افتراض بعض الباحثين (**) بأن كافكا، لو استكمل كتابة روايته هذه، كان سيكون من شأنه أن يقول لنا ماهي تهمة جوزف ك.، فإن الواقع يقول لنا إن الكاتب ما كان سيفعل هذا، وإلا فإن جوهر العمل نفسه سيضيع. لأن ك. ونحن ومُطارِدي ك. الذين قد يكونون مُطارِدينا نحن أيضاً، وقد نكون المُطّارَدين (بفتح الرَّاء) والمُطارِدين بكسر الرَّاء هذه المرَّة)، كل هذا القوم الجميل، لا يمكنه أن يعرف حقيقة الذنب".

 

ويكتب عِزَّت القمحاوي في مقالته "في مستوطنة العقاب العالمية" عن رواية كافكا "في مستوطنة العقاب" عن ترجمة كامل حسين الصادرة من دار "شرقيات"، كيف كان "الضابط يوجه المستكشف الذي وصل إلى الجزيرة الغامضة لتفقّد آلة التعذيب الجهنمية في نوفيلا فرانز كافكا في مستوطنة العقاب. الضابط في هذه النوفيلا الغريبة كان آخر سلالة الساديين ويتمسّك بآلته التي يدينها القائد الجديد ويحاول إبطال عقوبتها الوحشية، حيث يوثق المحكوم عليه مطروحاً على وجهه في جزئها السُفلي، بينما يتحرّك الجزء العُلوي ليحرث بالإبر ظهر الضحية حتّى الموت، وبعد ذلك يُلقي بجثته في الحفرة التي امتلأت بدمائه أسفل الآلة". ويواصل القمحاوي: "الكاتب الذي كتب أعماله في بداية القرن العشرين وتركها وصيّة سِريّة ونبؤة لما سيجري من قمع في قرن موحش بالحرب والأيديولوجيا، مضى بأحداث قصته حتّى أقام الضحية في اللحظة الأخيرة، وجعل الضابط اليائس من التأييد يستلقي داخل آلته ليكون آخر ضحاياها ويدفن إلى جوار قائده المؤسس. ولا تنتهي القصة بهذه الخاتمة المريحة، لأن كافكا لم ينس أن ينبهنا إلى عبارة منقوشة على باب قبر رائد التعذيب تتنبأ بأنه سوف يعود بعد عدد معيّن من السنين ليقود أنصاره لاسترداد المستعمرة! وإذا كان علينا أن نثق في الكتابة الجيّدة فإن بوش وأتباعه هم بالحقيقة هذا القائد وأعوانه".

 

أما قاسم حدّاد فيكتب مقالته التي هي في ظني واحدة من أجمل مقالات الكتاب، وعنوانها (واقع يقرأ "القلعة")، وهي عن رواية كافكا "القلعة". يمهد حداد لقراءته لـ "القلعة" بقوله: "يظلُّ النص الأدبي باهر الحضور، كلما برع الواقع في قراءته. عادةً يجري النظر إلى النص الأدبي بوصفه قراءة للواقع، وأحياناً تكون هذه القراءة بمثابة الفضح....أحياناً، ستكون قراءة الواقع للنص منطوية على طاقة من المصادفات المفاجئة الموغلة في الفضح. وفي قراءة الواقع للنص ضربٌ من إعادة تركيب النص في ضوء حركة الواقع وحيويته وطاقة التحول الإبداعي الذي لا يكتفي بالنص، بل يذهب إلى مكوناته الناشئة عن شطح المخيلة. نقول الواقع، ونعني الحياة ذاتها، تلك التي يشكل النص مقترحاً مفتوحاً على تحولاتها". 

 

ثُمَّ تدلف المقالة إلى "القلعة"، فتقول: "من بين الأعمال الأدبية التي تظل قادرة على الحضور في حياتنا المعاصرة، ويشكل تقدّم الحضارة الحديثة إحياءاً وتأجيجاً دائمين لمقارباتها الإنسانية، وإعادة خلق لا تكفّ عن الحيوية، تلك النصوص القليلة التي تركها لنا فرانز كافكا، بالخصوص نصوصه الأساسية، مثل "المحاكمة" و"القلعة" و"أمريكا". وما علينا إلا أن نعيد تأمل هذه النصوص لكي نرى القراءة المشوقة التي يقترحها علينا واقعنا، ونكتشف أيضاً الطاقة الخلاقة الكامنة في تلك الرؤيا. فلم يكن كافكا يتحدث عن لحظة زمنية ومكانية ثابتة، إنما كان يمارس ضرباً من السبر المتصل بالإنسان في كثير من تحولاته، فيما هو يحاول تفادي حياة أرأف منها الموت .. فيموت"... "يجلس المثقف في دهليز كافكا، يصغي له وهو يكتب نصه عن تلك القلعة التي تتلاعب بمصائر البشر، قلعة قابعة هناك في قمة الجبل، تطلّ على القرى الصغيرة وتفتك بها في هيئة من يشفق عليها، وفي جميع الأحوال لن ترى القلعة في تلك القرى غير كائنات داجنة أو قيد التدجين أو يتوجب أن تخضع لذلك. سيقال إن كافكا لم يكن يفكر في المثقف (خصوصاً) عندما دفع بالسيد (ك.) إلى تلك القرية الصغيرة المغطاة بالثلوج. نعرف ذلك، لكننا نعرف أيضاً أنه لم يضع شرطاً مسبقاً يحول دون حرية الواقع وهو يقرأ النص على هواه"... "ثمة الحياة التي هي موت ناجز غير معلن. فما إن يسلّم المثقّف نفسه للدور المتوهم في خدمة القلعة، مستسلماً لتوجيهات مبعوثيها وممثليها في القرية، حتى يفقد سلطته على نفسه. فهو منذ اللحظة رهن سلطة القلعة، ويتوجب عليه أن يصغي إلى تعاليمها، وينفّذ مشاريعها بالآليّة التي تتناسب مع منظور القلعة فحسب. 

 

وعنما يكتشف المثقف أنه لم يعد يُعبّر عن النزوع الفطري الذي صدر عنه مبكراً، والمتمثل في رغبة تغيير الحياة، وإنما هو يذهب (مثل السائر في النوم) نحو إنجاز المهمات الغامضة التي تروجها سُلطة القلعة، بواسطة موظفيها المنتشرين في مواقع خطواته، عند ذلك سوف يكون الوقت قد فات على تدارك الأمر، حيث لا رجعة عمّا يذهب فيه".  

 

كافكا و"اليهودية"

 

واحِدة من النِقاط الجدلية التي أشارت إليها بعض المقالات هي يهودية (وأحياناً صهيونية!!! كافكا)، كما في مقالة "رسالة إلى الوالد لكافكا" لنزيه الشوفي و "قصة كافكا .. كاملة" لنصر الدين البحرة و"كافكا من هو؟! من داخل نصوصه" لحسن حميد: هذي المقالات أرادت أن تدمغ كافكا بدمغة اليهودية بل والصهيونية أيضاً. فمثلاً يكتب نصر الدين البحرة في بداية مقالته: "تساءلت وأنا أقرأ قبل أيّام في عدد من الصحف العربية، خبراً عن الكاتب اليهودي الصهيوني التشيكي الألماني: أهذا هو النفوذ الصهيوني ثقافيّاً يضغط على العالم الثقافي ويفرض نفسه علينا بعدئذٍ؟ أم هو جهلنا أم تجاهلنا، أم واحدة من نتائج "التطبيع" مع العدو، حتّى بات بعض مثقفينا وأدبائنا "موضوعيين" إلى درجة الدفاع عن رموزه الثقافية والأدبية ثم يتباهون في ذلك، دون خجل أو حياء؟!".

 

ويكتب حسن حميد: "... فما مسخه، و(صرصاره) إلا صورة من مقاومة اليهودية للغيتو الأوروبي، من أجل النفاذ إلى (أرض الميعاد) التي (وعد) بها اليهود كما زعموا". 

 

وتذهب مقالات أخرى في الإتجاه الآخر وهو إخراج كافكا وآثاره من طوق اليهودية والصهيونية التي تحاول المقالات السابقة ومثيلاتها إحكامه حولها، والإبحار بها نحو آفاق إنسانية أكثر رحابة وسِعة. مثال ذلك مقالة "الآخر هو العدوّ عندنا" لكمال سبتي و "هل كان كافكا صهيونيّاً؟" لحسام الدين حافظ و"هُوية كافكا: هل كان من شأن كافكا أن يُسمّى كاتِباً فلسطينيا؟!" لإبراهيم وطفي.

 

يكتب حسام الدين حافظ وهو يعرض المقدمة التي كتبها كامل يوسف حين ترجم قصتي كافكا "في مستوطنة العقاب" و"بنات آوى وعرب": "... ويحاول (أي كامل حسين) في مقدمته إيجاد أكثر من دليل ينفي تواصل كافكا مع مقولات الفكر الصهيوني، منها ما جاء في موسوعة (ماكميلان) للأدب العالمي التي اعتبرت كافكا مفتقراً للتعاطف الغريزي مع الصهيونية (رغم كونه يهودياً)".

 

أما وطفي فلعلّه أوفى هذه المسألة رداً حين يقول: "وكانت لغة الحديث في بيت كافكا هي الألمانية وحدها. ولم يكن كافكا يعرف شيئاً من اللغة اليديشية، لغة يهود شرق أوروبا – (كان يتقن التشيكية والفرنسية، ويعرف الإنجليزية والإيطالية). ولم يتلق أي تربية دينية عند أهله. ولم يكن يعترف بيهوديته إلا إذا كان مضطراً. ولكافكا أقوال عديدة في رسائله إلى صديقته ميلينا تنم عن عدم استلطافه لليهود. ففي رسالة مؤرخة في 13 حزيران 1920 [أي قبل أربع سنوات من رحيله] كتب كافكا: "رأيك باليهود الذين تعرفينهم طيّب أكثر من اللازم. أحياناً أتمنّى أن أحشرهم جميعاً (بما فيهم أنا) في الدرج، وأنتظر، ثم أسحب الدرج قليلاً كي أرى فيما إذا كانوا اختنقوا جميعاً، وإذا لم يكن هذا قد حدث، فأغلق الدرج، وأعيد العملية هكذا حتى النهاية". ولكافكا جملة مشهورة تقول:"لم ترشدني يدُ المسيحية في الحياة مثل كير كيجارد، ولم ألتقط الطرف الأخير من رداء الصلاة اليهودي مثل الصهاينة". وقبل وفاته بأسابيع كتب إلى والد صديقته دورا ديامنت، التي كانت ترعاه في المستشفى، رسالة يرجوه فيها السماح له بالزواج من ابنته. ورغم أن والد دورا كان رجل دين، فقد ذكر له كافكا في رسالته بصراحة أنه ليس يهودياً مؤمناً. وفي مجموع آثار كافكا لا توجد شخصية يهودية واحدة." 

 

ويمضي وطفي في مقالته أعلاه فيقول: "أمّا خبراء الدعاية الصهيونية فقد قاموا بأكبر عملية (سطو) على كافكا، إذ ادّعوا أنه كان صهيونياً. وكان مرجعهم (الوثائقي) الأساسي في ذلك هو كتاب كتبه شخص يدعى غوستاف ينوش ونشره بعنوان (أحاديث مع كافكا). وما من دارس رصين من دارسي كافكا في العالم يعتبره مرجعاُ رصيناً. وإذا استشهد دارس جاد من هذا الكتاب، وهذا نادر، فإنه يفعل ذلك معرباً عن شكه في صحة هذا المصدر (***). لكن كافكا ليس ملكاً لدولة ولا لصهيونية، وإنما هو أكثر من أي شاعر عالمي آخر، هو ملك البشر كلّهم ... (بما فيهم العرب طبعاً .. إذا أراد العرب).... ويبدو كافكا لبعض الدارسين كاتباً خارج كلّ تراث أدبي قومي وكل علائق تاريخية، من دون أي ماض.... كان كافكا طيلة حياته في موقف المنفي. وكانت هويته القومية لا تخلو من إشكالية. وكان بلا وطن حقيقي. ومن هنا – ربما - جاءت شموليته". 

 

نونُ الكتابة

 

كما ذكرت في بداية كتابتي، هناك خمس مقالات لكاتِبات، وواقع الحال أن أولاهن ليست مقالة بل قصة قصيرة هي " قامات مزوّرة" للقاصة السورية أنيسة عبود تبدأ هكذا: "استيقظ مـتأخراً على غير عادته، شرب قهوته وراح يرتدي ثيابه وهو ينظر إلى المرآة يستطلع ملامحه .. فوجئ إذا رأى أنه قزم جداً، لم يصدق عينيه". 
كما هو بائن تستدعي الكاتبة هنا قصة "الانمساخ" لكافكا: "حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح مِن أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة". 

 

وتمضي قصة عبود التي لا يتجاوز طولها صفحتين، لتصف لنا "سعيد" المُتّحوِّل وهو ينزل إلى الشارع، فلا يحيَه أحد، وتفر" أسماء" حبيبته وتنكره أمه، فيفكّر ألا أحد سيدرك سرّ هذا التزوير، كما تقول الكاتبة، سوى "سعدون" الذي "يسجل الولادات والوفيات .. الأسماء والوظائف والعائلات وأطوال كل فرد ونمرة حذاء كل فرد في الحارة" ... ولكن "سعدون" هو الآخر تغيّر .. لم يعد في وجهه شعر ولا شوارب .. صوته يشبه صوت المرأة وهيئته لم تعد تدل على هيئة رجل .. إنه امرأة .. ابتعد "سعيد" وهو يرجع إلى الوراء اصطدم بامرأة .. نظر إليها فوجدها "أسماء" المرأة التي أحبّها، أشار بيده وكأنه يسأل، ابتسمت وراحت تطيّر البوم مِن صدرها".

 

في مقالتها "فيليس ... كانتّي قاضياً" تكتب حليمة خطّاب عرضاً لكتاب إلياس كانتي "محاكمة كافكا الأخرى" والذي ترجمه للعربية نعيمان عثمان وأصدرته دار "شرقيّات" ط1 2002 ، حيث يتناول كانتّي، كما تقول خطّاب، مراسلات كافكا مع خطيبته فيليس باور فيصفها بقوله: "هي مجموعة رسائل فريدة استمدّ كافكا منها مؤونته في الكتابة". ويضيف: "إنه ليس تبادلاً عقيماً للرسائل، إنه يعينه في الكتابة، ليلتان بعد الرسالة الأولى يكتب (الحكم) وفي جلسة واحدة، خلال ليلة واحدة، وخلال هذه العلاقة توطدت ثقة كافكا بنفسه ككاتب، وفي الأسبوع التالي كتب (السكتة) وفي الشهرين التاليين يكتب (أمريكا) ثم يأتي عمله الكبير (المسخ)، فترة انتاج رائعة لا تقارن بفترات أخرى في حياته". ومثلما كتبت "خطّاب" عرضاً لكتاب، تحذو حذوها كلٌّ من ماري طوق وفرح جبر، فتتناول الأولى كتاب "كافكا والفتيات" لدانيال ديماركت، وتتناوله أيضاً الثانية بالإضافة إلى كتاب إلياس كانتي الذي عرضته خطّاب كما أشرت أعلاه.

 

تكتب ماري طوق في مقالتها "كافكا عاش المرأة هاجساً وكلما اقترب منها ... هرب": "مغامرات كافكا العاطفية لا يتناولها الكاتب دانيال ديماركت بحدّ ذاتها، بل يشدد على الروابط التي تجمعها بأدبه وبسيرته الذاتية النفسية وكأن كافكا يتوقع فقط من الفتيات والنساء أن يكنّ بمثابة عون له يستمد منهن القدرة على الكتابة، لا بل يضحي بهن على مذبح الكتابة". وتمضي طوق مع كتاب "كافكا والفتيات" فيكتب وتكتب عن علاقات كافكا مع فيليس باور وجولي وميلينا ومراسلاته مع الأولى والأخيرة، ثم تجئ الخاتمة مع علاقته مع دورا ديامنت، حيث تتساءل طوق: "هذه هي قصة كافكا مع الفتيات اللواتي ملأن حياته ولم يقترب منهن، إلا بقدر ما سمح له مِزاجه وعشقه للكتابة. ولكن، هل نستطيع حصر حياة كافكا العاطفية بخوفه العصابي من الجنس والمرأة والزواج؟".

 

"كافكا والنساء: المرأة كائن الكتابة لتزيين الجثّة بالأنوار"، هكذا أسْمَتْ فرح جبر مقالتها وفيها تقول: "بين الكتابين (كتابي :ديماركت وكانتي المُشار إليهما آنفاً) وكتابات أخرى نلاحظ كابوسية كافكا المريرة في الحب وفي العلاقات العاطفية والغرامية. فهو يحلم بالحبّ على طريقته كما يحلم بالحياة. يطلب المستحيل من الفتيات، على غرار ما يطلب من الأدب والحياة. يعشق الفتاة من بعيد وحين تقترب منه يبتعد عنها، وحين تهرب منه يحاول استرجاعها. يخطب الفتاة لكنه يرتعب مِن فكرة الزواج منها". 

 

وكما فعلت طوق عرضت جبر علاقات كافكا مع الفتيات والنساء اللاتي ورد ذكرهن في مقالة طوق، وهذا راجع لا شك إلى أنّ الكاتبتين تناولتا نفس الكتاب وهو "كافكا والفتيات"، ألهذا إذاً خلصتْ جبر إلى ذات النتيجة التي انتهت إليها طوق، فكتبت: "ومثلما كان كافكا يريد المرأة ويهرب منها، كانت هذه المرأة في أدبه هي الكائن الذي يبقى لكن متحوّلاً إلى كتابة. ففي كل مرة كان كافكا يلتقي بفتاة جديدة، كانت العلاقة تنتهي بانتصار الكتابة على متعة الحياة والسعادة". 

 

ولن يفوتنا بالطبع أن نلحظ هنا أن المقالات الثلاث الماضية، وهي لكاتِبات، ركّزت على علاقات كافكا مع النساء، وهو ما لم تناوله المقالات الأخرى وكتّابها الرّجال، وإن كان الكتابان اللذان تأسست عليهما رؤى الكاتبات هما لرجلين (كانتّي وديماركت). 

 

أمّا جمانة حدّاد فآثرت أن تسير على دربٍ آخر (مع الإشارة إلى أن مقالتها "ثمانون عاماً على غياب كافكا" جاءت هي الأخرى مؤسسةً على دراسة عن كافكا، كشأن مقالات خطّاب و طوق وجبر)، وهي علاقة كافكا الكاتب بالوظيفة، فكتبت تقول: "كُتب الكثير بلا ريب عن علاقة كافكا بعمله، وعن المعاناة التي تسبب بها له طغيان الواجبات. لكن هل كانت حقّاً غربة مطلقة بين فرانز الموظف وكافكا الكاتب، أم أن الأخير توصّل في شكل ما إلى ردم الهُوة مع وجهه الآخر، وإلى رتق المزق القدري بينهما؟ هل كان ثمّة فِصام بين الرجلين، أم انعقدت مصالحة سِرّية بين هذا وذاك؟ إنه التساؤل الذي تطرحه دراسة حديثة حول الوظيفة في حياة الكاتب (وحول حياة الكاتب في وظيفته) صدرتْ حديثاً في ألمانيا بقلم الباحث كلاوس فاغنباخ، وتسدّ النقص الفادح اللاحق بصورة كافكا على هذا المستوى".

 

وتعرض حدّاد للاشمئزاز الذي كان يثيره المكتب في نفس كافكا وتقول إنه "لم يكن ناتجاً من أحكام الوظيفة في ذاتها بقدر ما كان ناتجاً من هجس الكاتب بالكتابة". وتمضي فتقول: .... لهذا لم يكن كافكا إذن ضحية الوظيفة بقدر ما كانت الوظيفة مجرد عائق مزعج أمام ترف لطالما حلم به كل كاتب. ترف يجدر أن يكون حقاً، وهو تكريس كامل الوقت للكتابة. وتضيف: "... وحتى ولو كنا نصدقه حين يزعم أنه عانى الأمرين من جراء متطلبات الوظيفة، إلا أن خياله لم يخضع لتلك المتطلبات ولا استسلم لجبروت قيودها. فالمكاتب الكئيبة وقاعات الاجتماع المكتظة وغرف المصانع الصاخبة وجبال الملفّات المهملة حضرت كلها في أعماله".

 

خاتمة

 

ما مِن شك أننا نلاحظ ونحن نقرأ مقالات كتاب "كافكا في النقد العربي" تنوّع هذه المقالات وتشعبها، ولا عجب في ذلك إذ أنّ وراءها هذا العدد الكبير مِن الكتّاب، والذين بالضرورة تختلف آراؤهم ورؤاهم عن كافكا وآثار كافكا .... ولكن ظنّي أننا نحن القراء نتفق على الجهد المُقدَّر الذي بذله إبراهيم وطفي وهو يجمع هذا العدد الكبير مِن المقالات بين دفتي كتاب، والذي هو، وكما أشرت في بداية كتابتي هذه، سير على خطا مشروعه الكبير في ترجمة آثار كافكا إلى العربية.

 

هوامش: 

 

*أصدر إبراهيم وطفي مُجلدي "الآثار الكاملة مع تفسيراتها" لفرانز كافكا مُترجَمينِ عن الألمانية (اللغة التي كتب بها كافكا آثاره): المجلد الأول (الأُسْرَة): ويحتوي ترجمة أربعة أعمال لكافكا هي قصص "الحُكْم" و "الوقاد" و "الانمساخ" (التي اشتهرت لدي القارئ العربي بـ "المسخ" كما ترجمها منير البعلبكي وعن لغة وسيطة وصدرت طبعتها الأولى عن دار العلم للملايين في تموز 1957) و"رسالة إلى الوالد". وقد أعقب وطفي ترجمة كلِّ هذه الأعمال بعدد كبير جداً من الدراسات المترجمة هي الأخرى عن الألمانية وبكم هائل من الإشارات والتحليلات والتفسيرات وإضاءات لحياة كافكا وأسرته، وهي بحق "تمثل طريقة جديدة في تقديم كاتب عالمي إلى القارئ العربي"، كما جاء في الغلاف الأخير لهذا المجلد الضخم الذي يتألف من 847 صفحة. وقد صدرت الطبعة الثانية (منقّحة) لهذا المجلد عام 2003، وناشرها هو المترجم نفسه أي إبراهيم وطفي وتوزيع دار الحصاد السورية.  

 

أمّا المجلد الثاني (الذَّات)، فهو مُكرّس بأكمله (815 صفحة) لرواية كافكا الشهيرة (المُحاكمة). ونقرأ في الغلاف الأخير لهذا المجلد ما يلي:"يضم هذا المجلد الثاني من "الآثار الكاملة" لكافكا: 1 - نصوص رواية "المحاكمة"، بتسلسل فصول صحيح لأول مرة في العالم، 2 - عشرين مقالة عن الرواية، وضعت خلال نصف قرن، 3 - آخر دراسة عن الرواية: كتاب "رسالة كافكا غير المُدرَكة"، 4 - أحاديث مع مُفسِّر لرواية "المحاكمة"، 5 - من سيرة حياة كافكا وتلقي آثاره في العالم.

 

وصدرت الطبعة الثانية (موّسعة) للمجلد الثاني عام 2004  من ذات الناشر، أي المترجم، وتوزيع دار الحصاد كذلك. أما المجلدات الأخرى، فلم تصدر بعد. وقد أفادني وطفي أخيراً أنه سيجعل المجلد الثالث يحتوي كافة قصص كافكا، باستثناء "الحُكْم" و "الانمساخ"، وسيحمل عنوان "القصص / البنية الجدلية للوجود البشري".

 

والسؤال المُهِم هنا هو: لماذا لم تتولَّ أية دار نشر عربية إصدار هذه المجلدات، حتى ينبري المترجم نفسه لنشر المجلدين الأولين، ولا ندري متى ستُنشَر الثلاثة الباقية؟! ما الذي يشغل هذي الدور مِن أن تسعى لنشر كل المجلدات تقديراً متواضعاً لجهدٍ جبّارٍ كهذا ....؟! هل هي "تُهمة" يهودية كافكا ما يجعل هؤلاء "الناشرين" يحجمون عن نشر آثاره وما يمت إليها من دراسات و ....؟! هل هي ضخامة المجلدين مع جِدّية الآثار ودراساتها مما قد يراه الناشر عملاً غير مجدٍ ماديّاً، فالأولى مثلاً أن ينشر عوضاً عن ذلك روايةً خليجيةً وأنثويةً تحديداً خفيفةَ النَّفَس والحِبر والورق، فماله إذاً و"قتامة وصرامة" كافكا ....؟! 

 

** لابد هنا مِن الإشارة إلى ما قام به "كريستيان إشفايلر" أفضل مُفسّر لكافكا، كما خاطبه إبراهيم وطفي في إحدى رسائله له، مِن إعادة ترتيب فصول رواية "المحاكمة" على غير ما صدرت به مِن قبل، وتفسيره لها تفسيراً أقل ما يوصف به أنه غاية في العمق والدّقة (أنظر كتاب إشفاير "رسالة كافكا غير المدركة" والذي ترجمه وطفي ضمن ترجمته للدراسات المكرسة لرواية المحاكمة)..... والعربية لا شك محظوظة إذ أنّ ترجمة وطفي لـ "المحاكمة" هي أول صدور لها وفق ترتيب إشفايلر لها، بل لعلها هي الوحيدة إلى الآن على مستوى جميع لغات العالم! 

 

*** في حوار أجراه إبراهيم وطفي مع راينر شتاخ، كاتب سيرة كافكا، يقول الأخير وقد سأله الأول عن مدى مصداقية غوستاف يانوش: "لقد ثبت منذ مدة طويلة أن تقارير يانوش عن أحاديثه مع كافكا غير موثوق بها. بل إنه يمكن للمرء لدى بعض الجُمَل أن يُثبِت مِن أين نقلها (مع تعديلها على نحو طفيف). لا مراء أنه ينقل أيضاً بعض أقوال كافكا الصحيحة، لكن لا يمكن للمرء أن يعرف قط فيما إذا كان قد سمعها أم ابتدعها، أم إذا كانت مزيجاً من الاثنين. وعندما كانت تجري مواجهة يانوش في محادثة شخصية بهذه التناقضات، كان يشير ساخراَ إلى "ذاكرته السيئة".

 

عصام عيسى رجب

 

"الأخبار"، الخرطوم، 2006)

 

 "البحرين الثقافية / العدد 51" (المنامة، 2008)

 

مواقع "جهة الشعر"، "جدار"، "سودان للجميع"

bottom of page