top of page

9 - ابراهيم وطفي أكثر من مترجم لكافكا!

صاحب مشروع أدبيّ ... الترجمة متنه الأساسيّ

ليس من العدالة عدّ ابراهيم وطفي، مترجماً لكافكا، فحسب؛ على الرغم من انشغاله البالغ به، وتفرّغه لإنجاز ترجمات لآثاره الكاملة مع تفسيراتها، تصدر تباعاً؛ بل إنّه صاحب مشروع أدبيّ مهمّ وفريد، تمثّل الترجمة متنه الأساس؛ فقد تجاوز ذلك إلى الباحث المهتمّ الجادّ الأمين الموضوعيّ، والناقد، والمؤرّخ، والمرجعيّ ... إضافة إلى موقفه الوطنيّ القوميّ الإنسانيّ، الذي تبدّى في متابعته لِما كُتب في موضوع مهمّ، يتمثّل في المحاولة المستمرّة للهيمنة على منطقتنا، ووسائل هذه الهيمنة وأساليبها، وترجمتِهِ في الكتاب الذي أسماه: "حرب الشمال على شعوب الجنوب"؛ كما يتجلّى في حرصه على جلاء القضيّة الأكثر جدلاً وشكّاً، وأثّرت سلباً على الاهتمام بكافكا لدى قرّاء العربيّة وكتّابها ونقّادها.. يهوديّة كافكا وصهيونيّته! وقد كتب في ذلك موضوعاً أسماه: "هويّة كافكا"، جاء في كتابه "كافكا في النقد العربي -  البداية" (1994- 2005)؛ كما تبدّى من خلال حديثيه مع المفسّر الأهمّ لكافكا،كريستيان إشفايلر، وكاتب سيرته الأهمّ راينر شتاخ، وتدقيقه في ذلك أسئلةً ومقاربة، وحصوله على ما يؤكّد الرأي، الذي خلص إليه؛ هو أنّ كافكا كان يهوديّاً (بالوراثة) غير ملتزم، ولم يكن صهيونيّاً البتّة.
من النافل القول إنّ على المترجم، الذي ينقل مادّة من لغة إلى أخرى، أن يكون ضليعاً في اللغتين، أميناً في نقل الفكرة والمصطلح؛ وممّا قرأته مترجَماً في العربيّة؛ تبيّن لي بأنّ وطفي متمكّن من العربيّة؛ ؛ بأسلوب ناصع، وصياغات سلسة مفهومة، وبمصداقيّة ووثوقيّة وأمانة، نستدلّ على كلّ ذلك، من أنّه حريص على ذكر أيّ أمرٍ يفيد القارئ العربيّ، وحين يتدخّل، يشير إلى ذلك بين قوسين أو في الهوامش؛ أمّا لغته الالمانيّة، التي عاش معها أكثر من نصف قرن، فإضافة إلى ما تعلّمه وخبره، فإنّه يستعينُ بزوجته الالمانيّة/  سكرتيرته، على أيّ أمرٍ ملتبس؛ كما يسألان صاحب المادّة إذا كان حيّاً قريباً، أو يتواصلان معه بأيّ وسيلة ممكنة، ويستعينان بمن يلزم، للوصول إلى الأدقّ والأقوم؛ ونحن نعلم، وهو يعلم، أنّ المواد، التي يقوم بترجمتها أدبيّة؛ إمّا نصوصٌ مؤلّفة، أو نصوص ومقالات نقديّة، وفيها كثير من المقاربات والمصطلحات الدقيقة القديمة والمستجدّة؛ كما أنّ من المعروف، عن أدب كافكا خاصّة، أنّه صعب التناول بلغته الأصليّة؛ فكيف سيكون الأمر حين يُراد أن ينقل إلى لغة أخرى؟!
وقد لا حظ الأستاذ وطفي منذ البداية، حين قرأ ما سمّي بالمسخ ، أنّ هناك إشكاليّات مهمّة في الترجمة، تبدأ بالعنوان ذاته، فقرّر الاهتمام بالأمر، والترجمة بما يراه أكثر صواباً؛ فكان أن عدّل عنوان الرواية إلى "الانمساخ"؛ على سبيل المثال.
وتتميّز ترجمات وطفي بالإحاطة والشموليّة؛ فلا يكتفي بترجمة النصّ؛ الرواية أو القصّة، أو الحوار... بل يضيف إليه كثيراً ممّا قيل عن هذا النصّ، وما أثاره، وما أثير حوله.
والمترجم ابراهيم وطفي صاحب رأي مستقلّ في ما يترجمه، يورده باسمه في مكان يراه مناسباً، وتظهر آراؤه الواضحة والواثقة في الحديثين المطوّلين مع أهمّ مفسّري كافكا، كريستيان إشفايلر، وأحدث كاتب لسيرته الإشكاليّة راينر شتاخ.
وهو صاحب موقف يعلنه حول القضايا المثارة، ويعبّر عنه مكتوباً بلا مواربة؛ سواء في كتبه أو في أحاديثه.
أمّا الموضوعيّة فتظهر بجلاء في نتاج وطفي؛ فلا يتردّد أبداً في نشر ما له وما عليه؛ فقد تواصل مع كاتب سيرة كافكا، راينر شتاخ، وحرص على ذلك؛ بالرغم من خصومته مع صديقه الحميم إشفايلر، أهمّ مفسّري كافكا، ونشرَ ما كتبه شتاخ بحقّ المفسّر، وحقّه.
وابراهيم وطفي باحث، لا يوفّر جهداً في البحث عن كلّ ما يتعلّق بالموضوع الذي يناقشه، أو النصّ الذي يترجمه، ويورده، أو يورد مقتطفات منه، أو عنه؛ لكي يكون لدى القارئ مختلف الآراء، التي تُمكِنهُ المقارنة بينها، واستنتاج ما يراه. وقد جمع ما وصل إليه ممّا كتب عن كافكا بالعربيّة، بمختلف الآراء السلبيّة والإيجابيّة في كتاب  "كافكا في النقد العربي"؛ في مؤشّر إلى استكماله في كتاب لاحق- أو كتب- وزمن تالٍ، وتشير الآثار الكاملة إلى حرصه على البحث عن كلّ ما يتعلّق بكافكا ونشره في مجلّدات متتالية.
وهو ناقد؛ تدلّ على ذلك آراءُ وطفي المستقلّة في مقالات، أو المدوّنة في حواش لكتبه العديدة، أو حواراتُه مع النقّاد والدارسين، أو تعليقُاته على آرائهم... كما تدلّ على أنّه ذو تفكير نقديّ مقارن، واستيعاب دقيق للحركة النقديّة ومصطلحاتها وتيّاراتها؛ فتسهل صياغاته لها، وتسلس عباراته الشارحة والموضّحة، وتغدو القراءة ممتعة ومفيدة؛ على الرغم من صعوبة المادّة ومعانيها وأبعادها.
وهو مؤرّخ موثّق، يهتمّ كثيراً بتأريخ ما يتعلّق بالشخصيّات الأدبيّة، التي يتناولها، ومراحلها العمريّة، ونتاجاتها، وتواريخ إصداراتها بمختلف طبعاتها، وما كتب عنها.
وبناء على كلّ ذلك؛ فقد غدا ابراهم وطفي مرجعاً في ما يتعلّق بكافكا، وما يتناوله في كتبه وآثاره الكاملة.
أمّا المثابرة؛ فإنها تطبع حياة وطفي، الذي يتابع كلّ أمر يتناوله إلى منتهاه، وفي كلّ الأماكن والأشكال. والالتزام دأبه؛ حيث يعمل (ما يزال وقد تجاوز الثمانين) في أوقات محدّدة، ووفق برنامج صارم، ويتابع موضوعاته؛ ترجمة وتدقيقاً ونشراً وانتشاراً بالتزام واهتمام واحترام. وحين لم يجد ناشراً عربيّاً، دفعه التزامه بقضيّته المعرفيّة إلى أن ينشر بنفسه هذه الترجمات في دمشق.
وتظهر الجدّيّة والمسؤوليّة في نتاج ابراهيم وطفي كاملاً، والتخطيط والتبويب واضحان من نتاجه الغزير، المنشور منه، وما لم ينشر.



غسان كامل ونوس

(الشارقة الثقافية، العدد 35، سبتمبر 2019)

+  الموقع الرسمي لغسان كامل ونوس

bottom of page