top of page

12 - "رسالة إلى الوالد" لكافكا

أهم رسالة في تاريخ الأدب العالمي كتبها ابن إلى والده

اليوم عيد ميلادها المئة

اليوم، العاشر من تشرين الثاني / نوفمبر، عام 2019 بلغت "رسالة إلى الوالد" لكافكا عامها المائة بالتمام والكمال. بدقة أكثر: بلغ بدء ميلادها المائة عام، إذ في هذا اليوم من عام 1919 بدأ كافكا بكتابتها وأنهى كتابتها بعد أربعة عشر يوماً. في اليوم الرابع والعشرين من الشهر نفسه.

كتبها بخط يده بقلم حبر رفيع أسود على 103 صفحة. لذا جاء تصويرها بالتقنيات الجديدة بعد ثلاثة أرباع القرن من كتابتها تصويراً ناجحاً بشكل فائق. كان كافكا حين كتب هذه الرسالة "العملاقة" في سن السادسة والثلاثين ووالده في سن السابعة والستين.

خاف كافكا من غضب الوالد إذا سلمه الرسالة، فسلمها لوالدته كي تسلمها إلى زوجها. قرأت الرسالة ولم تسلمها إلى المرسلة إليه. وإلا كان مزّقها "مثل سمكة"، ولما وصلت إلينا.

بعد وفاة كافكا أخذ ماكس برود الرسالة وأوراقاً أخرى من غرفة كافكا في منزل أهله، وفي عام 1953، أي بعد كتابتها بأربعة وثلاثين عاماً نشرها لأول مرة، لكن ليس بكاملها.

لاحقاً اشترت دار نشر "هوفمان اوند كامبي" في هامبورج مخطوطة الرسالة وقدمتها في عام 1984 إلى "أرشيف الأدب الألماني" في مدينة مارباخ كهبة إعارة دائمة. وحفظت في "متحف الخالدين" هذا، المخصص لجمع مخطوطات الآثار الأدبية المكتوبة باللغة الألمانية في العصر الحديث.

والهدف من ذلك هو وضع هذه الوثيقة الهامة تحت تصرف علماء الأدب من أجل تقييمها علمياً. 

المخطوطة الأصلية

علبة طويلة مسطحة مكسوة بقماش كتّان أسود. تفتحها، فتجد مخطوطة أصلية اصفرّت أوراقها، انثنت زاوية إحداها، أو أصاب ثانية تمزق طفيف، أو وقعت على ثالثة نقطة حبر. لا، ليست هذه المخطوطة هي الأصل نفسه، بل هي صورة طبق الأصل صوّرت بشكل فني فيه متقن.

في عام 1986 نشرت "رسالة إلى الوالد" بهذه الطريقة غير المألوفة. ليس على شكل كتاب، بل على أوراق منفصلة يبلغ عددها مئة وثلاث ورقات تحوي صوراً للمخطوطة الأصلية بخط يد كافكا. وإلى جانبها وضع في العلبة الجميلة نسخة من كتاب صغير مطبوع يضم دراسة كتبها الكاتب والناشر يواخيم أونزلد.

لكن عيب هذه الطبعة - العلبة كان ثمنها، إذ كان ثمن النسخة الواحدة منها يبلغ 700 ماركاً ألمانياً (350 يورو).

في عام 1994 صدرت هذه الطبعة الفاخرة على شكل كتاب يتألف من ثلاثة أقسام. يضم القسم الأول صوراً طبق الأصل للصفحات المئة والثلاث بخط يد كافكا. ويضم القسم الثاني نص هذه الصفحات مطبوعاً طباعة عادية نقلاً حرفياً عن الصور. والقسم الثالث هو نص الدراسة التي وضعها أونزلد. ويبلغ عدد صفحات الكتاب 238 صفحة من القطع الكبير.

مما قيل عنها

"إنها الوثيقة الأدبية الأكثر أهمية عن حال الفرد القسرية في القرن العشرين وأهم رسالة في الأدب العالمي كتبها ابن إلى والده" (غرهارد نويمان).

"تقدم ديناميكة نفسية داخلية: تحليل ملحّ ودقيق للغاية لظروف سلطة بطريريكية ونتائجها في تدمير الروح.

تأخذ الرسالة موقعاً فريداً في الكتابة الذاتية في الأدب العالمي" (راينر شتاخ).

عربياً

"رسالة إلى الوالد، هذه الرسالة - الوثيقة الإبداعية. تأتي أهمية هذه الرسالة من إمكانيات خروجها من دائرة الخاص إلى العام، وانسحابها على كل علاقات الوصاية في العائلة والعمل والمجتمع والدولة، بكل أهراماتها الصغيرة التي تشكل الهرم الكبير، وتخضع لأعراف أو قوانين مصنوعة لتخديم النزعات الفردية في العائلة أو القبيلة البدائية أو العصبة المذهبية أو الإيديولوجية، في تعاملها مع الرعية، هذه الوصاية التي ترعى التخويف أولاً، وقد تنتقل إلى المرحلة الثانية: الترهيب والترغيب" (بندر عبد الحميد).

​"رسالة إلى الوالد نص إبداعي ثرّ" (علي ديوب).

"كم (هرمان) يوجد عندنا في الوطن العربي؟ أظن أن الإجابة تقديرية نظرا لأن الرقم هائل، لعل السؤال الأهم هو هل ينجب هرمان عندنا كافكاوات؟  أعتقد بأن كل أسرة عربية يوجد فيها هرمان يوجد فيها على الأقل كافكا واحد" (شيماء يوسف).

"... الصراع بين أب وابن، أب متسلط يرى في تقزيم ابنه قوة له، بل يكاد يستمد قوته من ضعف ابنه؛ وابن ضعيف يسعى لإثبات شخصيته وقوته ككائن له خصوصيته. وهنا تكمن متعة قراءة هذه الرسالة الطويلة، التي تتعرض لكل التفاصيل وحتى المحرجة منها في هذه العلاقة الحساسة بين الأب وابنه في أسرة ألمانية ... هذه الرسالة التي نشرت في العالم كله وكتب عنها آلاف الدراسات والتحليلات وأطروحات الدكتوراه، واقتبس بعض جملها كبار العلماء في مجال تربية الطفل.

إنها أبرز وأهم رسالة تربوية كتبها أبرز وأهم روائي في القرن العشرين يوجهها إلى الآباء في العالم" (عبد الباقي يوسف).

"ويبقى أبو فرانز كافكا، إذا ما قورن بالأب العربي، أباً عطوفاً رؤوفاً (فرج العشة).

"أهم رسالة في تاريخ الأدب العالمي كتبها ابن إلى والده".

مطلع "رسالة إلى الوالد"

الوالد الأعز،

سألتني مرة، مؤخراً، لماذا أدّعي أنني أخاف منك. ولم أعرف، كالعادة، أن أجيبك بشيء؛ من طرف بسبب هذا الخوف نفسه، الذي أستشعره أمامك، ومن طرف لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمّعه إلى حدّ ما في الكلام. وعندما أحاول هنا أن أجيبك كتابةً، فلن يكون الأمر إلا ناقصاً كل النقص، وذلك لأن الخوف ونتائجه يعيقني إزاءك في الكتابة أيضاً، ولأن حجم الموضوع يتجاوز ذاكرتي وعقلي كثيراً.

تعليق

أنا هرمان كافكا إذا لم تعمل كما أشاء، فأنت حشرة ضخمة. وأنا فرانز يوزف امبراطور النمسا إذا عارضتني، فأنت جرثومة. هكذا كان وهذا هو الحال. هنا يمكن أن نفهم كيف أن انمساخ غريغور سامسا إلى حشرة لم يكن حلماً ولا خيالاً، بل كان واقعاً استقاه كافكا من فم والده. هكذا هو أدب كافكا: ليس خيالياً ولا كابوسياً، بل واقعياً. يصف الواقع عبر صور شعرية. الصفحة الأخيرة

الوالد هرمان كافكا

ولد عام 1852 في قرية شمال براغ، وزار فيها المدرسة الابتدائية مدة أربع سنوات. وكان هذا هو تحصيله التعليمي الوحيد. عاش في القرية حتى بلغ سن العشرين. ومنذ طفولته عمل في دكان والده الجزار. بعد تأديته خدمة عسكرية انتقل إلى براغ، وعمل مندوباً تجارياً متجولاً (لاحقاً أعطى ابنه هذه المهنة لغريغور سامسا في قصة "الانمساخ" الطويلة). بعد زواجه أسس متجراً معتمداً على المبلغ الذي جلبته زوجته إلى الزواج. في مدة قصيرة نجح المتجر وبات متجراً يبيع بالجملة  سلع موضة وأقمشة متنوعة، ويعمل فيه خمسة عشر عاملاً، وأمسى صاحبه ثرياً نوعاً ما.

طبعاً أراد التاجر الأمّيّ أن يورّث متجره الناجح إلى ابنه الوحيد ليعمل على إنجاحه أكثر. هنا وأمثال هنا اصطدم عالمان لا يلتقيان. عالم الحياة البورجوازية وعالم الفن. عالم القمع وعالم الحرية. فنشأت "رسالة إلى الوالد" وغيرها من آثار أدبية خالدة.

نشوء الرسالة

في أيلول / سبتمبر 1919 نشأ نزاع عنيف بين كافكا ووالديه. كان الوالدان يعارضان بشدة زفاف كافكا المخطط له مع يولي فوريتسك، التي كان كافكا قد تعرف إليها في الشتاء قبل ذلك. هذا النزاع دفع الوالد إلى إطلاق أقوال مهينة بحق ابنه، فقد عرض عليه أن يقوده إلى بيت دعارة، كي لا يضطر إلى الزواج من "أية" فتاة.

هذا الحادث أثار غضب كافكا على نحو بالغ ودفعه إلى محاولة وضع علاقته المتوترة دائماً مع والده على أساس جديد. كتب هذه الرسالة خلال أسبوعين في شيليزين حيث كان يقيم للاستشفاء.

لا تنتهي الصفحة الأخيرة التي كتبها يوم 24/11/1919 بـ "المخلص" أو "ابنك"، بل بـ "فرانز".

هذا التوقيع يختصر الرسالة "العملاقة" (كما كتب عنها لاحقاً كاتب عربي).

خاف كافكا من غضب الوالد إذا سلمه الرسالة، فعمد إلى تسليمها لوالدته كي تسلمها إلى زوجها. قرأت الرسالة ولم تسلمها إلى المرسلة إليه. وإلا كان مزّقها "مثل سمكة"، ولما وصلت إلينا.

في العام التالي فكر كافكا بأن يسلّم الرسالة إلى المرسلة إليه، لكن شكوكاً ساورته في أن توصل هذه الوثيقة إلى تفاهم مع الأب، ناهيك عن تصالح. بات كلما ابتعد عن السبب المباشر لكتابة الرسالة يدرك أكثر أنها نص سير ذاتي لا يحتاج إلى شخص واقعي يستقبلها. 

ابراهيم وطفي *                                                                    (العربي الجديد، 10/11/2019)

-------
* يمكن وصف المترجم السوري إبراهيم وطفي (مواليد طرطوس عام 1937) بأنه مترجم كافكا ودارسه الأول في اللغة العربية، إذ كرّس له مسيرة حياة تمخضت عن ترجمة ونشر معظم آثار كافكا بالعربية، إلى جانب مجموعة من أبرز الدراسات حول أدب صاحب "الانمساخ". يقول وطفي عن علاقته بكافكا: "لم أعرف مثل هذا التماهي مع شخص آخر أو حالة أخرى ... إنه أقرب شخص إليّ ممن تعرفت إليهم طوال حياتي، شخصياً أم قرائياً" (العربي الجديد).

https://www.alaraby.co.uk/culture/2019/11/10

كافكا.. مئة عام على رسالة إلى الوالد

bottom of page